اللوحة: الفنان السوري أكرم زافي
الثالثة عشر
وحينما بلغ الصبي الثالثة عشر، قرر أن يذهب إلى “المولد” دون صحبة من قريب أو أنيس للطريق، إثر قراره نشبت عاصفة هوجاء قادتها أمه ضد رغبته العارمة، فحذّرته من مغبة مايسعى إليه، ذكّرته بمخاطر وأهوال ستعترض مسيرته حتى يصل إلى حيث ينعقد مولد “الروبي” لكن عزيمة الصبي لم تلن أمام توسلات أمه كما لم ينفطر فؤاده حينما رأى دموعها تنهمر.
انطلق يعرف طريقه، كلما اقترب تصاعد الصخب وعلت الضوضاء فيدق قلبه بشدة، أمواج متلاطمة من البشر أتت من أرجاء المدينة والمراكز المتاخمة والقرى النائية، زحام كبير ذكّره بآيات تتحدث عن يوم الحشر، فألقى الصبي بنفسه بين الجموع تتقاذفه الأيدي وتركله الأرجل وهو بين هذا وذاك في شغف عظيم.
لكنه حال لم يستمر كثيرًا، إذ من بين الأرجل والسيقان التي تشكّل غابة كثيفة تحجبه عن العالم وتمنع الرؤية عنه، اندفع كلب أسود اللون، عظيم الحجم فاغر الفم، تتدلى من بين فكّيه أنياب ومن بين أسنانه يسيل لعاب ثخين كثيف، انطلق كقذيفه تدرك طريقها جيدًا وتعرف هدفها معرفة اليقين،ثم هجم على الصبي، قفزة واحدة وقد أطبق أنيابه على الفخذ الأيمن للطفل، ثم أبى أن يتركه. وسط دموع البريء تناهى لسمعه صوت المقرئ يأتي من بعيد وهو يتلو “وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم”
ليست قضيتك
“تبلغ سعادتي قمّتها عندما أراك، حينها أمسك ضوء القمر بين أصابعي، تلك لحظة يتسع ضيق المكان ليصبح واديًا كبيرًا، ينعقد اللسان، ثم تلتقي الأنامل ويمتزج الصمت بالهمس”..
على رغم منّي وجدتني أنصتُ لشخص يجاورني في مجلسي، غريب وإن بدا صوته مألوفًا لديّ، لكنّي تجاوزت البحث وراء هذه النقطة، انطلقت بفؤادي خلف ما سمعت ووراء ما قال.
لعّله دون قصد لمس وترًا بداخلي ولعلّي دون عمد تسمّعت لما لا ينبغي ليّ، لكن أجزم أن كلماته سحرتني وأخذتني بعيدًا فوجدتني في سفينة شراعية بيضاء، تبحر في محيط زرقاء مياهه، ساكنة ريحه، تنطلق ببطء، ثم أفقت و الرجل يُنهي محادثته ويغلق هاتفه، ينهض وأثناء ذلك ألقى بصره إليّ كأنما يقول ليّ: تلك ليست قضيتك ولن تكون.
نظارة أبيّ القديمة
اختفت عُلبة نظارات أبي القديمة، تلك الباقية من إرث تركه منذ بعيد، هو بضعة دفاتر دوّن فيها مذكراته وذكرياته خلال سنوات حياته القليلة ومنفضة سجائر نحاسية على رغم كراهيته للتدخين، وعدد يفوق الحصر من أقلام جافة لم تعد تصلح للكتابة، وحافظة كان يحتفظ فيها بطوابع بريد نادرة، إذ كانت تلك هوايته الوحيدة بعد القراءة وارسال الشكاوى للجهات الرسمية.
فقدتُ العلبة منذ سنوات بعيدة، قلت لنفسي: ربما تاهت أو لم تك موجودة من الأصل، فقد تبيّن ليّ أن كثير من الأحداث التي أحكيها للناس لم تقع بالفعل، لفتّ صديقي ” سامي ” إلى أن هذه وتلك أعراض لعّلة أصابت ذاكرتي وحّذرني بضرورة الإسراع برؤية طبيب، ثم نزع نظارته السميكة ومسحها بمنديل ورقيّ وارتداها من جديد ثم أكمل حديثه إليّ بقوله: ” أنا كنت بقول إيه”!!!
لكنّي وجدتها عشيّة أمس على طاولة خشبية صغيرة بجوار سريري في نفس مكانها القديم، بلونها الأسود الشاحب، بتلك التهرئات التي أصابت جوانبها، بمزلاجها الصدئ حتى أنها لا تنغلق بصورة تامة، تلك اللحظة التي رأيتها، غمرتني طمأنينة، حملتها بيميني وهززتها قليلًا فسمعت رجرجة لشيء مادي بالداخل.
، أدركت أن النظارة بمكانها، آمنة مستقرة كما أودعها أبي رحمه الله، فتحتها بحبور صبيّ عثر على أبيه بعد أعوام من تيه وضلال، لكنّي وجدتني أمام فأرين شديدا السواد،قفزا من العلبة وشواربهما تسبقهما، قفزة واحدة وانطلقا بسبيلها خارج البيت ووراءهما من العدم اندفع جيش من الهررة أولّه وراء الفأرين وآخره وقف أمامي قط يقعد على قوائمه، يكشّر عن أربعة أنياب وذيل مرفوع في الهواء ثم ندّ عنه مواء أقرب لنحيب..
نسكافيه
لم يلتزم يومًا بموعد متفق عليه، لذا فقد تبلّدت مشاعري حينما تأخر بالأمس، فأنا أعرفه منذ زمن، أعرف كيف يعصف بالمواعيد و استمتاعه بتجاهل الوعود. تخيّرت مقهى بالناصية المقابلة، من تلك المقاهي الحديثة التي يُطلقون عليها ” الكوفي شوب ”
جلست على مقعد وثير بجوار نافذة كبيرة تطل على الميدان الفسيح، تلفّني روائح جميلة وموسيقى حالمة ناعمة، وجوه مشرقة مفعمة بالأمل،كأنيّ ولجت لعالم آخر غير ما أعيش فيه.
” النادل ” بوقار وأدب: صباح الخير.
صباح الخير.! ثم تذّكرت: فنجان قهوة لو سمحت، على الرائحة غامق.
نسيت الصديق والموعد واسترخيت في المقعد الوثير، مستمتعًا بلحظة لا تأتي كثيرًا، ثم تسلّل لأنفي عطر آخّاذ، تصحبه ضحكة على استحياء فالتفتُ لأجدها تحمل بيديها كوب ” نسكافيه ” تتصاعد رائحته المميزة..
جميلة.! تلك كلمة فقدت معناها من كثرة ترديدها، لكنها فاقت الجمال بمراحل لدرجة أعجزتني عن الوصف فجمُدت بموضعي والفنجان بيدي وعيني تتبع ضحكتها وتتلمس رائحتها.
يبدو أن تركيزي معها لفت نظرها فأدارت رأسها بإيماءة أقرب لتحيّة مع بسمة خفيفة علت شفتيها، فخجلت لطابع ريفي متأصل بداخلي، لم أعد أدري هل تبتسم بتلقائية كموقف عابر أم لشأن آخر لا أدريه !، غرقت في بئر عميق يفيض بالحيرة، حتى أخرجني صديقي السمج قائلًا: أهلًا بالغالي معذرة. تأخرت عليك؟.
قلت: بل أنت جئت مبكرًا على غير عادتك.