عبد العال العنزاوي

عبد العال العنزاوي

حسن عبد الموجود

اللوحة: الفنان العراقي فؤاد حمدي

كعادتي دائمًا كنت أهرب من أمي (رحمها الله) في يوم النظافة (يوم الاستحمام) وكم كنت أنفر وأشمئز عندما كانت تشبهني – وأنا على ما أنا عليه من ابتذال – بعبد العال العنزاوي أنفر وأنا لا أعرف عن ذلك الرجل شيئًا. حتى كان اللقاء الذي لم يكن متوقعًا ولم أعد له عدته عندما فاجأني بهامته الشامخة عند ذهابي أول يوم إلي كُتَّاب القرية في الجمعية الإسلامية لتحفيظ القرآن الكريم جذبني صديقي وتنحى بي إلي أقرب جدار وهمس في أذني (إنه عبد العال) ووجدتني دون وعي أحتضن مصحفي وأنكمش عليه في خوف بالغ وأنا أنظر بعيني المذعورتين إلي ذلك الرجل ذي اليد الواحدة الذي يملأ الشعر الأبيض الملبد رأسه ووجهه حتى يكاد يخفي ملاحمه التي لا أكاد أذكر منها شيئًا غير هاتين العينين المملوءتين بذعر عنيف أودى بصاحبه إلي الجنون.

لم أكن أعلم وأنا أتتبعه حتى توقف عند بيته المواجه للكُتَّاب مباشرة أنني أتتبع بطلاً من أبطال الحرب قاتل ببسالة حتى طارت يده فطار عقله، ثم عادوا به إلي قرية لا ترحم أحدًا وهي أحوج ما تكون للرحمة، قرية تسخر من كل ضعيف أو فقير وهي تلبس رداء الفقر الأبدي الذى لا تنوي أن تخلعه، قرية تدفن همومها وشقاءها في ندواتها التي تعقد كل مساء للخوض في أعراض الناس.

عاد وهو في ريعان شبابه ليقضي بقية حياته فوق ألسنة الناس وتحت أرجلهم لم يعد يجلس مع أحد ليسخر من أحد.. بل لم يعد يجلس مع أحد.. بل لا يكاد يكلم أحدًا.

لم تعد يد تُرفع لتحيته أو رِجْل تسعى للقائه، يا لها من مأساة أن يزحف العمر من العشرين حتى يتخطى الستين على تلك الحال البائسة.

 أصدق ما يعبر عن تلك المأساة جلباب ذلك الرجل الذى أدمنت النظر إليه من نافذة الكُتَّاب وهو يقف بقامته التي مازالت تتحدى الزمن بصلابة وشموخ أمام منزله ذي الطابق الواحد يا له من جلباب فضفاض ويا له من منزل أصيل تحمل الكثير والكثير من قمامات قريتنا القميئة .

يعود بعد جولته اليومية الطويلة في أنحاء قريتنا وحول أكوام قماماتنا المتناثرة يحمل محصوله اليومي في كم جلبابه المربوط الذى لم يطق أن يظل فارغًا من يده فانطلق يملؤه بالأحجار والزجاجات والصفائح الفارغة والأحذية الممزقة التي تدخل تباعًا من فتحة عنقه إلي كمه الواسع ليكون مثواها الأخير فوق منزله الذى أصبحت قمته تشبه صندوق قمامة تغافل عنه عمال النظافة لسنوات.

كم كانت لحظة مثيرة حين تكومنا جميعًا خلف نافذة الكُتَّاب تكاد رؤوسنا أن تقفز خارجها في ترقب وذهول وخوف عندما جاء البشير بقدومه ويا لها من لحظة أشد إثارة عندما وضع يده في فتحه عنقه ثم مدها إلي داخل كمه الذى يكاد أن ينفجر لكثرة ما به من عجائب ومفاجآت يخرجها واحدة تلو الأخرى ثم يلقيها بكل قوته فوق منزله العامر.

لم أجد على ما عشته من عمر لحظات أشد ترقبًا من هذه اللحظات التي كنت أراه فيها كحاوٍ يخرج من جرابه المشهور ما لا يخطر على بال أحد.

كم كنا نغتم وتنفطر أفئدتنا حزنًا عندما يجيء النذير بقدوم (الشيخ على) على دراجته المعهودة يدوي جرسها المشهور من بعيد لا أدري كيف تحولت كتله اللحم التي كانت تلتصق بحديد النافذة إلي عقد فريد متراص بجوار جدار الكُتاب تتلو حباته آيات القرآن في خشوع بالغ تنتزع من غفلــة الشيـخ (رحمه الله) بين الحين والآخر نظرة ثاقبة إلي هناك خلف النافذة حيث تتوالى المفاجآت.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.