مصطفى البلكي
اللوحة: الفنان المصري أحمد الجنايني
فجأة تحركت المياه الراكدة في بيت سيد البلدة، ومنه خرج الخبر وأخذ يجوب كل شوارعها: العمدة سوف يرزق بطفل بعد سنوات من الزواج.
فرح الناس بالخبر إلا السيد. فور علمه، ترك البيت، جال في الشوارع، قبل أن يسلم جسده للمكان الذي سيحضن خوفه. وقف ونظر إلى البساط الأخضر النائم تحت أقدام البيوت، انتهي فراح يفاضل بينهما. أي جهة سوف تكون شاهدة على ما يدور بداخلي من أفكار. فكر. النهر مكان لا يعادله مكان.
عبر البساط الأخضر، وصل للبقعة المفضلة لديه، وجلس، أمسك بقلبه السؤال: بنت، أم ولد؟ هو مقتنع أن العائلة تحتاج إلى ولد. نعم أريده ولداً. قالها وألقي بنظر إلى مياه النهر، ثم كان السؤال الثاني: ماذا لو كان المولود بنتا؟ هزه السؤال، فقام من مكانه، وأعطي ظهره للنهر، وعلق عينيه على البلدة وبيوتها، وفكر. “أترضي الناس بما سوف يكون؟ ويسلمون بالأمر الواقع، أم تكون هناك معارضة، تملك قدرة تقويض سيطرة الأسرة”.
أتعبته الأفكار، فأسلم وجهه للأفق، رأي صقرا يقطع المسافة بين نخلتين، أعجبه ما يقوم به من تنقل بينهما، بحركة تسير بانتظام، يحافظ الصقر على جناحيه مفرودين، تشبع من المشهد فابتسم وقال إنه يصلي، ثم تابع همسه.
“كأنه يقول لي افرح وعش اللحظة، وما كتب لك سوف يكون، لكن في الزمن المناسب، والمولود سيكون في منعة وحماية، هكذا يقول المشهد، هكذا تقول الأعراف لمن يري صقراً”
عاد إلى بيته، برأس مثقل، فأسلم نفسه لنوم عميق، تردد صداه في جنبات غرفته، لم يجرؤ أحد على دخولها حتى زوجته.
ايقظه كابوس لعين، فجلس في غرفته زائغ العينين، لا يقدر على مص ريقه، يري الماء قريباً منه فلا يمد يده، ليتناول الكوب، رهبة مما رأي.
استجمع قواه الخائرة، زعق منادياً، دخل عليه كل من في البيت، شقت زوجته جموع المتحلقين حوله فزعة، اقتربت بوجهها الخمري المشوب بحمرة القلق، شاهدت وجهه الغارق في العرق، حط في قلبها الانزعاج، فطلبت من أحد الخدم، إحضار طبيب العائلة, لم يمنعها السيد ولم يعترض، ظل ممدداً، وهي بجواره، يتنقل بعينيه في سقف الغرفة، وما رأي وشاف في منامه يملك عليه نفسه.
دخل الطبيب، وبرفقته مساعده، اقترب من السرير، وبدون أن يكلمه، سحب يده. قال:
ـ نشوف صوت القلب.
اندهش الجميع وهم يرون الطبيب، يبتسم ويقول إن السيد لا يعاني من شيء، فقط صوت القلب، يشير إلى توتر ما، وسكت، ثم طلب من الجميع مغادرة الغرفة، وبقي معه. وطلب من مساعده إخراج مسحوق النبات المخدر، انزعج السيد وصرخ منبها:
ـ علاجي مش في المسحوق، علاجي في كلام يفسر لي الكابوس.
ـ كابوس؟
ـ أيوه كابوس.
يمد يده، يضعها على فم السيد، والهلع يكاد يقتله، وهو يصرخ:
ـ لا يا سيدي، متقلش غير لما نحصنك.
حرر يده:
ـ سامحني، خوفي هو السبب.
ثم التفت إلى مساعده، وأمر أن يحضر الخبز الطازج، والمر، وأعشاب خضراء، ونبيذ.. مزجها، فصنع مزيجاً، راح يدهن به وجه السيد فلما انتهي قال:
ـ نصف الحماية
ـ والباقي؟
ـ مش عندي.
ـ ومين غيرك؟
ـ المنجم، فتفسير الحلم سر من أسرارهم، وكما تعلم يا سيدي، الأحلام مش كلام البشر.
طلب الرجل، وجلس ينتظر على أحر من الجمر.
دخل الرجل في حلة نظيفة، فخرج كل من في الغرفة، بناء على طلبه، فلما خلت، وأصبح وجهاً لوجه مع السيد، قال له:
ـ خير.
ضحك السيد وقال:
ـ أنت اللي يقول خير ولا شر.
ـ طيب قول.
أغمض عينيه، وقال إنه رأي نفسه، يجلس على شاطئ النهر، أمامه لحم مشوي يأكل منه، فلما أكل، نام، وعندما استيقظ فإذا بقزم بجواره، خاف منه، فهرب، وتحت شجرة جميز عجوز وجد طفلاً صغيراً، أعجبه شكله، فاقترب منه، وجده يحمل نفس ملامحه، فرح به ولما هم بحمله إذا بالصغير يطلب منه جعة ساخنة، فأخذ ينهل منها.
صمت، فعرف أن ما تبقي هو ما يسبب كل هذا الهلع المستقر على ملامحه، فطلب منه أن يكمل، فقال إنه بعد اجتياز باقي المسافة، والتي تعادل ما قطعه وجد الطفل، عندها نُزعت منه الحياة، وكان بين يدي الناس عارياً.
أفرج الرجل عن ابتسامة محدودة، وقال يوصيه:
ـ قبل ما أتكلم لازم يكون راسخ في قلبك، فالكنز يا سيدي في القلب، كما تعرف، وكما تعرف فجذور عيلتك في بلدنا ثابتة في الأرض و…
يقاطعه السيد، وهو يكاد يفقد صبره:
ـ كل ده أعرفه.
يضحك الكاهن ويقول:
ـ ما دام الأمر كده، فالأمر بسيط.
مندهشا:
ـ كيف؟! وأنت بمقدمتك زدت صب الزيت على النار.
ينظر إليه، يثبت عينيه في عيني الكاهن ويتابع:
ـ تعرف الملح بالطبع، الملح اللي ما يستساغ الأكل بدونه، والملح ما زال في راسك، قول ما تخفش.
قال الرجل إن ما سوف يبوح به ليس من عنده بل هو علم حصل عليه من سابقيه، وسكت، فشعر السيد بتردده، فما كان منه إلا أن قال: الكابوس وقع، ونصف الحماية تمت، وميضرش لو فسرنا. اختلجت شفتي المنجم، وشعر أنه قد يفقد السيطرة على نفسه، فبحث عن شيء يتعلق به لم يجد إلا المقولة التي تفوه بها: الأحلام ما هي إلا ترجمة لما يدور.
وكسر حاجز صمته، وتكلم، وأخبره أنه حينما أكل من لحم التمساح فهذا يعني أنه على أبواب أيام سعيدة، وأما القزم ووجوده، فتفسيره أن نصف عمره قد فات، ولم يبق إلا النصف، والولد ولده، وشربه النبيذ، فنذير شؤم، يقول إن المتاعب سوف تلاحقه.
ـ اللي قلته يكفي
أشرق وجه المنجم، وأصر على أن يلقي بآخر تعليماته، فطلب بصنع ثعابين من الطين توضع عند الأبواب، حتى تمنع الكوابيس من أن تأتي مرة أخرى. وعده السيد بفعل ما قال.
في المساء كان السيد يمسك بكوب عصير أودعه سم الأفعى، وبيده يقدمه لزوجته، بينما السؤال يعود.. ولد.. أم..