مِنْ أرضِ الحريرِ والنار

مِنْ أرضِ الحريرِ والنار

محمد غازي النجار

اللوحة: الفنان الإنجليزي جون غريمشاو

(١)

مُترعًا بالحريرِ والنارْ.

وامضًا، أهبطُ سُلّمَ عمارتي صاعدًا بنايةَ حُلْمٍ ينهارْ.

ناهضًا، أمشي علىٰ جدارِ العالَمِ كنملةْ.

معاندًا يأسي ونفْسي، أركبُ دماغي، وألاغي إخوةَ الحياةْ:

مساءُ الخيرِ يا جارتي النخلةْ، مساءُ النورِ يا صفَّ الأشجارْ.

كيفَ حالُكِ سيّدتي الوردةْ، كيفَ حالُكَ سيّدي الريحْ.

تحيّاتي يا آنساتي المصابيحْ، الواقفاتِ في ثباتْ.

تحيّةً يا سمُوَّ القطةْ، علىٰ عرشِ الخردةْ.

وتحيةً لغرابٍ بارْ، يصالحُني علىٰ نفْسي.

سلامًا علىٰ بومةٍ بسلامٍ حطّتْ علىٰ رأسي، وفراشةٍ حطّتْ علىٰ قلبي ترشفُ الأساطيرْ.

وسلامًا يا سربَ العصافيرْ، ويا حصانًا بالعربة يطيرْ.

وسلامًا يا “هايدي” في كُلِّ قصيدةْ.

ليلتُكمْ سعيدةْ.

(٢)

متباعدًا، كأغنيةٍ مرّتْ ولا تبالي، أخرجُ منْ حيِّي الميّتِ قاصدًا أوّلَ ثعلبةٍ تلقاني في البارْ، علىٰ طاولةِ المُحالِ أحتسي زجاجةً منَ البيرةِ المترعةِ بثلجِ الأماني ونارِ الذكرياتْ، وأخرجُ إلىٰ الشارعِ مُتخمًا بالشرارْ، مُتطايرًا أتأمّلُ الناسَ والمباني.

أركبُ الطرقات قطًّا مذعورًا يقطعُ المسافاتْ، علىٰ حافّةِ الرصيفِ والأسفلتْ، يتْبعُ فيالقَ الظلالِ والأنوارْ، وتتْبعُهُ عمالقُ الخيالاتْ، تُروِّعُهُ غيلانُ الحديدِ والإسمنتْ، تُطوِّقُ عنقَهُ الميادينْ، وسلسلةُ الإشارات تجرُّهُ إلىٰ حتفهِ المبينْ.

يا رهبةً يَغصُّ بها الحلْقُ في الحصارْ، منْ كلابِ السكك وجحافلِ السياراتْ.

يا غربةَ ملَكْ، نزلَ الأرضَ قطًّا أبيضَ، في براحِها يزرعُ الضوءَ والسكينةْ، فلمْ تمسحْ علىٰ رأسهِ كفٌّ حنونةْ، ولمْ يَسلمْ منْ حجارةِ الصغارْ، ولمْ ترحمْهُ هراوةُ الكبارْ، وطاردَهُ نباحٌ وسعارْ، فأعرَضَ مُيمِّمًا وجهَهُ شطرَ المدينةْ، مُشرَّدًا يَشربُ منْ نهرِ عوادمِها، يَطعمُ منْ لحمِ زبالتِها، ويَبيتُ في حدائقِ النفاياتْ، حتىٰ صارَ أسودَ، مُلبَّدًا بالغمومْ، ونسيَ رسالتَهُ، مُلبَّدًا بالغيومْ، وأرسىٰ الكأسُ سفينتَهُ.

(٣)

مُترنِّحًا أنزلُ إلىٰ الشارعِ المطيرْ، كأنَّ الليلَ ليلانِ، والعمْرَ عمرانِ، ويُطرِبُ أحزاني عزيفُ الزمهريرْ.

أنْفُضُ عنْ رأسي ماءَ الغَوْلِ والأمطارْ، وأشدُّ عليهِ مِعطفي الحنونْ، مواجهًا هزيمَ الرعدِ محزونًا لمحزونْ.

ترشُّ الأعمدةُ علىٰ طريقيَ الأنوارْ، وأرشُّ علىٰ الحياةِ رأفةً مُلهِمةْ، عندَها تصحو السماءْ:

أصفِّرُ فتبتدئُ الحساسينُ الغناءْ.

أصيحُ فتسرعُ صاهلةً قطعانٌ منَ الجيادِ المُطهَّمةْ.

ألوّحُ فيرسلُ البحرُ مَدَّهُ غاسلًا قلبي والشطَّ المديدْ.

أصفِّقُ فتقفزُ الدلافينُ إلىٰ القصيدْ.

وعلىٰ المنعطفِ أمسحُ علىٰ رأسِ قطٍّ يموءْ، شعُرتُ نحوَهُ بألفةٍ مبهمةْ، يتْبعُني

فأتابعُ مَسيرتي بهدوءْ، فاتحًا ذراعيَّ للقادمِ منْ بعيدْ، مُترعًا بالحريرِ والنارْ،

وامضًا، يصعدُ سُلّمَ كينونتي هابطًا إلىٰ أرضِ النهارْ.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.