اللوحة: الفنانة السورية لبنى ياسين
أجزم أنه لم يأت لزيارتي من قبل، أو لربما لا أتذكر قدومه إليّ، كما سقطت ملامحه وبهتت تفاصيله، فبتُ أذكر القليل مّما قيل ليّ عنه قديمًا، لكن ليلة أمس وقبيل الفجر بدقائق، زارني، فقد سمعت طرقًا خفيفًا على الباب، وشعرت كأنما يد تعبث به وتحاول فتحه، وسمعت صليل مفاتيح تتبدل وتتغير لعّل أحدها تنهار مقاومة ” القفل ” أمامه، لكن حينما أحاط اليأس بالقادم، ركن للدق على الباب.
وفي الأحوال العادية أقسم أنّي لا يمكن أن أسمع خبطته الرقيقة هذه، لكنّي بعتمة الليل، سمعتها كوقع الرعد في السماء، فأسرعت لتلبية النداء، ونادي: من هناك؟ فرجع صوتي إلّي ومعه صوت غير غريب: افتح.
دخل يرفل في كفنه الأبيض، ينتعل خفّه الشهير، حليق الذقن، شاربه لا يزال يستطيع أن يحمل صقر يافع،قاطع شرودي بقوله: هل انتهيت من ذهولك؟
فقلت: لعّلها المرة الأولى التي أراك رأي العين هكذا، فقد سمعت وقرأت بعض ممّا كُتب عنك، دوّنت بعقلي تفصيلات كثيرة، ربما ضلّت عن ذاكرتي قليلًا، لكنها تهافتت على عقلي حينما دخلت بقدميك إلى بيتي، فهل… وقبل أن اسأل عاجلني من جديد ولكن بغضب صريح: تراجع عمّا تنوي القيام به، عُد فالعود أحمد، بعض الفرار نجاة.
فأدركت ما يرمي إليه، فقاطعته بلطف: لكنّي أهوى، لقد سئمت العيش في بيئة فاسدة تربته ومكان عطن هواءه.
عندئذ اندفع إليّ ’، وقد تجاهل شيخوخته البادية عليه، ألقى وراء ظهره سنواته التي تقترب من التسعين، جذبني من ذراعي إليه، ثم أرعش شاربه، قرّبني منه برفق، فلحظت أن وسامته التي سمعت عنها من الناس لا زالت بادية عليه، أفقت على خشونة كلماته: تراجع يا ولدي ففي الرجوع حياة..
فأجبته ودمعة تأبى أن تنزل على خدّي: لكنّي لم أعش من قبل، فهل تبخل علّي بسويعات من سعادة، ثم سألته: لمَ رفضك وتشدّدك في المنع هكذا؟!
فحدّجني بنظرة رجل مات من قرون ثم بُعث لمهمة محددة وقال: هل سألتك من قبل عمّا كنت تأباه؟!
فرددت عليه قوله ودموعي تسبقني: لا زلت بجبروتك القديم، ولا زلت أنا طفل أمامك، كنت أحدثه وهو يلملم بقايا ثوبه الذي دُفن به، يزيل عن جسده أدران السنين وطول الرقاد، كان يوليني ظهره ويغمغم، فاجتهدت في تبيان مايقول فوجدته يردد مقولة واحدة: تراجع عن غيّك، ثم غاب عن ناظري فهويت ومن خلفي هوى الباب.