نورة عبيد
اللوحة: الفنان التونسي نجيب بلحوجة
متحلّقات حول الأفق ينسجن حكايات الحبّ عن أنفسهن وأمهاتهن وصديقاتهن بين الضّحك والصّمت تنقطع الهمسات بين نزيهة وشريفة.
كانت على مضض تجاري بوحهما، وترى في سرّها لغوا ما أخبرتا، وتشبيه ركيك ما حاولتا وصفه، وهباء ما تتجادلان حوله، فالحبّ عندها على هيئة الماء والهواء يأخذ شكل الإناء الذي يحتويه.
بلباقة عاليّة انسحبت إلى فراشها وأذعنت لذكريات قريبة تتمنّى جفاءها، يومها تقدّمت نحو مقعدها المألوف بركن من أركان المكتبة الفسيحة بكلّية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة 9 أفريل
كانت على موعد مع بحث فتنت به حول تجلّيات الحواس أثناء الكتابة لطالبة من قسم الفرنسيّة، وقد أجبرت على قراءته بهذا الرّكن امتناعا لنسخه إذ تنقاد هي بسهولة وبلاهة لقوانين منع الطّبع.
تقدّم منها في صلافة يسأل عن بعض أساليب التّعامل مع هذا المكان تيقّنت أنّه جديد عهد بالكليّة، فأجابته بسرعة، فعاود السّؤال حتّى أبلغته أنّها لا تنتمي لقسم التّاريخ واطمأنت لانصرافه عنها، تواترت إطلالاته بين الفينة والأخرى، متشرّب للحكايات والأسئلة لقد كان في ضيافة أرض المتنبّي وأبي نواس وأبي جعفر المنصور لقد تخصّص في التّاريخ القديم واهتمّ بدراسة المبادلات التّجاريّة القديمة بين البابليين والفرس والرّوم.
قالت له إنّ عليسه أخذت أرضنا مقابل أوزار الحرير وروائح النّرجس والخزامى، ومالت بعشاء على عشاء أجدادنا وأرباب مقافل بيوتنا، ناصفها التّقلّب في المعاني، ورجاها أن تصبر عليه إلى حين يشتدّ عوده بتونس فكأنّه وغيبته تاهت عنه واستنكر حليبها.
بدرب الأقحوان فرشت له أرضا حبلى بالاطمئنان، ودون أن تشعر ألّحت على تشمّم نفس المتنبي وابن برد والسّياب، وسألته عن شارع الأميرات وعن جبرا إبراهيم جبرا، وسخرا من الرّبيعي وتفنّن في نشر معرفته بالمكان وساكني المكان.
استقرّت تونس عنده أنثى عربيّة سافرة تحترق بالمدنيّة، فازدانت بفؤاد من صفد وطبريّة وبغداد وحلب وقيروان وفاس والنّاصرة والنّاصريّة ومداصيّة.
تسلّل الشّك إلى يقينه ذات مساء خريفيّ بديع كانا يجوبان شارع الحريّة دون غاية ولمّا مرّا بكنيس يهوديّ يحرسها شرطيّان يحملان بندقيّتين أخبرها أنّ البندقيتين متعطّلتان قديمتان لا تعملان، إذ تكفي صورة البندقيّة ليخاف المارّة فالبنادق العربيّة جلّها معطّبة.. وأنت واحدة من الذين لا يحتملون الطّلقات، أقسمت له أنّها تجيد رمي البنادق فجدّها ووالدها يجيدان الصّيد، وكانا قد درّباها على ذلك طال الحجاج بينهما إلى أن تيقّن من صحّة كلامها فازداد شكّه وتغبّش انسيابه وتحذّر في كلامه ونقص خطوه وكبح مهجته وفي سرّه ندب قلبه وتقلّص نبضه، وتكوّر في صدفة ينتظر التّجلّي.. ستقوده إلى حيث يخشى ستقوده إلى حيث يأبى ستستدعي ذعره وستفرّق حزنه، ستخذله، سيسبح في متاهة المتوسّط.
لا هي ولا هو من الوسطيّين في القرار والعيش والأفكار لا يعرفان الوسطيّة فكلّ الإمكان وإلاّ لا كان فيض وحبّ وحرب، ولا برك آسنة تنتظر انتظار إشارة إعلان القرار.
ذلك المساء أراد أن يعترف بين جفنيها ما حدّثت نفسه عنها إليه قبيل الفجر فقد قام متخبّطا بين أضغاث هيئات، وجهها الجليّ بين الوجوه، صوتها الهامس بين الصّخب وضحكتها الآسرة بين الدّموع.
للحظة يا ركاب اعتقدت أنّك من البوليس السّريّ واعتقدت أنّك تلاحقينني لتتمكّني من الغوص في تراكم سحب هذه الحقبة فأنت أفضت في معرفة أحوال مداص وتشرّبه، وتفاوضت في انتزاع القرار من الأمم المتحدّة لضربه، وكنت مصرّة على معرفة رأيي الذي سيغيّر العالم ويغيّرك أنت إذن عندي مسؤولة عن هذا الخلط بين المجاز والحقيقة في الصّراع الدائر بين عالم عبد الرّحمان منيف وجبرا إبراهيم جبرا وقدرتهما على انتزاع الخرائط، لقد حطّمت حدودي، ولذلك لا بدّ أن تتقيّدي بقيدي أو تنحجبي ببردتي أو تنزلقي كالبلازما بين أنهار دمي.
صفّقت بحرارة لدويّ الطّلقات التي صوّبها وذكّرته أنّه منبتّ من عقد مجازاتها، غريب عن كلّها لا ضياء له في أغانيها، مرهوب من بوليس خرافيّ عشّش فيه بفضل الدّولة البوليسية التي كان في ضيافتها ثمّ تفرّقنا أبكمين أخرسين، روحين مهجورين وأعين بارقة بالزّبد.
تلهّت بالمداد وأقلام من شجر، ونشرات الأخبار وتفنّنت في الاختفاء بين دهاليز الكليّة ومدارجها.. تغطّت تماما حين داهمتها نزيهة بفزع سقوط الآلهة التحقت بها شريفة وأزاحتا عنها الفرو القطنيّ النّاعم في ليلة عاصفة من شهر ديسمبر بعيد الاحتفال بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وقبيل رحيلها إلى قريتها لتؤازر الشّابي وجبران ومولود فرعون في ولائهم للرّعاة.. قالتا بصوت باحّ مضاعف “وجدوا مداص لم يغادر بغداد، لم يغادر المتردّم، لم يفرّ من وهج البسملة والحمدلة.
ذاع الخبر في كلّ الوسائل، طوّحوا به هناك
تكوّرن تحت الغطاء، ركاب وشريفة ونزيهة قالت لهن في شجن: «قلبي عليه وعلى السّقم، أذني منه وقع قدم، أطرافي تيبّست سيجول الحانات جميعها سيحتسي كلّ خمرها سيرعد
قد يطبق البلاد ومن عليها، سيزأر سيهدر سيجهل فوق جهل الجاهلين، قلبي عليه ومن عليه سيعود عصفا وحجرا وميسرا» غابت كلّ منهن في صمت دفين لم يطفئن النّور، ولم تدوّ ضحكات ركاب عند ثورة الصّمت التي تسبق النّوم
يمضي اللّيل بين لمعان البرق وهزيم الرّعد المرتدّ عبر نافذة الغرفة المشتركة لركاب وشريفة ونزيهة، أطبق اللّيل وأعرش، ونام المحبّون وسكنوا، وصلّى المتهدّجون ووتّروا، غفل الكلب وغفا، وقبل أن يتهيّأ الدّيك للصّياح رنّ جرس مسكنهن رنينا متقطّعا فأفقن مذعورات.
أُشْعِل النّور في المنزل المجاور لمسكنهن أرهفن الآذان، الجارّ ينكر وجود ركاب بالمنزل ويؤكّد لمحدّثه أنّ الوقت متأخّر، فيتجبّر الآخر ويخبره أنّها سرقت كتبه، وإن لم تخرج إليه في هذه السّاعة سيحضر الشّرطة تحت أيّ أمر كان، جبن الجارّ المنافق فخرجت له شريفة وخاطبته خلف الباب الحديدي العالي أن عد في الصّباح! فارتفع الصّوت إنّها حبيبتي، نامت بين أحضاني، زندي وسادتها ونبضي مطارفها إنّها همسي وقلقي وسخطي.
لم تنتظر عودة شريفة، فتسربلت في معطف شتويّ وتعثّرت في حذاء جلديّ، لبست القفّاز ثمّ تيقّنت من اصطحاب بطاقة التّعريف الوطنيّة وخرجت إليه، ورجت اللّه أن يلطف بها.
نظر إليها، فشاعت رائحة الخمر إلى نهر الأردن اشتعل رأسه نارا وعصف لسانه سخطا وشتما ارتعشت يده “أنت السّبب فيما حصل لميداص أنت وأمثالك، نحن الوشاة، نحن النّفوس الشّريرة المستضعفة أنت لا دخل لك بالسّياسة لا تفقهين مداخلها، كفّي عن النّظر إليّ، ليعمّ العماء، لا تسمعيني ليسود الصّمم، لا تكوني أنت، كوني صخرة جحيما خمرة”
يزداد الرّيح البارد في لفح وجهي، ويزداد هو في قطع أسباب حياتي استوى الحال، تمنّيت ساعتها لو يسنح قتله وقتلي تمنّيت لو تداهمنا سيارة مجنونة فتأتي بحتفي وحتفه تمنّيت لو يعفّ قلبي وقلبه عن النّبض ويتجلّط دمه ودمي في خطف البرق.. على تلك الحال مرّت دوريّة شرطة، فتثبّتوا فينا دون أن يستوقفونا، في حياء اعتذر منّي كيف عنّ له أن أكون حارسة للنّوايا والظّلال؟ كيف عنّ له أن يقفل دوني طوفان الأماني؟ مال بي إلى اليمين، بقايا قوارير الجعّة تتناثر في طريق مقعّر، قطط متكوّرة في الأركان مصابيح تتواتر في الضّياء من هنا وهناك.
اعتلى مدرجا بباب عمارة متطرّفة، خفّ الخطى ثمّ أدار المفتاح وفي حذر جذبني إلى غرفته، صور القبض على مداص المتناقلة عبر الصّحف تغطّي الأرضيّة، الشّكل الأشعث لعقل دقيق وجسد عجين، قوارير الجعة، لم أقو على عدّها، نزع حذاءه وحملني ملء عينيه المتورّمتين على سرير مبعثر، جلسنا.. قوّس يديه على جسدي، مرّر أصابع قدميه على حذائي ثمّ احتضنني بعنف ولين وتوتّر.. اعتذر عن رائحة الخمر الخانقة.. ضحك من معطفي إذ شبّهني بنعمان في سلسلة “افتح يا سمسم” ثمّ نام فتسلّلت من بين أطرافه حيرة وحبّا وحصارا.
وجدت قبيل الصّباح الجارّ بالباب ونزيهة وشريفة خلفه بالشّباك عدلت عن الكلام وفي حصّة العربيّة بالقسم من يوم الرّابع عشرة من ديسمبر أخبرت التّلاميذ أنّ ابن حزم تاهت عنه أشياء في سبر ماهيّة الحبّ.