ترنيمة

ترنيمة

د. محمد سعيد شحاتة

اللوحة: االفنان الأكراني ٕيفان إيفازوفسكي

الليلُ ذئبٌ شَرِس

راقبتُهُ وهو يأكلُ عيونَ الغرباءِ عند أرصفةِ الموانئِ

ويُثبِّتُ مكانها عيونًا من فولاذٍ

لا ترى إلا ما خبَّأه في ذاكرتها

وحين تبدأ الذاكرةُ بالمشاكسةِ يقضمُ بعضَ أطرافِها

فترتبكُ الخطوطُ        

وتتداخلُ الصورُ

وتنزلقُ النجومُ نحو هوَّةٍ سحيقةٍ من ضبابٍ وعواصف

ويبتلعُ البحرُ النوارسَ

فتنهشُ أنيابُ المعاني القلوبَ

وترسمُ الألفاظُ المُدَبَّبَةُ تعرُّجاتٍ عميقةً في الدماغِ

وتحفرُ أخاديدَ في الضلوعِ

هَمَسَ عاشقٌ في أذنيهِ:

كنْ نجمةً لطيفِ حبيبتي كي يهتدي إليّ

فحدَّثهُ عن جوعِ الذئابِ للفرائسِ

همستْ عذراءُ في أذنيهِ:

عيناي لم تعدْ قادرتين على البكاءِ

فكنْ رداءً لوجعِ الروحِ

فحدَّثها عن المنافي

وتَصَحُّرِ القصائدِ في عيونِ الشعراءِ

وأرداها على طرقاتِ الوهم وحيدةً

تغتسلُ بغيوم الأسئلةِ الحيرى

**

وحدها الموانئُ ترتدي قبَّعةَ الغرباءِ

حين تغازلُها أبخرةُ السفنِ راحلةً

وحدها العيونُ تحفظُ طيوفَ الراحلين

حين يلوِّحون للشواطئِ

ويتمتمون في عجزٍ وحنين

وحدهُ النايُ يختزلُ تموُّجاتِ المجازاتِ الحُبْلى بالجمرِ

ويغازلُ أشرعةً أضناها السفرُ

فارتكنتْ لليلِ تبوحُ بأسرارِ فضاءات الغربةِ

وتؤوب محمَّلةً بالأسئلةِ المدبَّبةِ

**

الليلُ حملٌ وديعٌ

راقبتُهُ وهو يهدهدُ طفلةً كي يأكلها الوجعُ الوحشيُّ

إذ تبحثُ عن مأوى

وتواري أعضاءها الأنثى من ذئبٍ مهووسٍ بلحومٍ غضَّةٍ

وعيونٍ من لؤلؤٍ

ليضيءَ دروبَهُ نحو القبيلةِ

محتفيًا بفروسيةٍ لم يشهدها تاريخُ الرملِ

ودروبُ الذاكرةِ المثقوبةِ

وشعابُ المنتسبين لطقوسِ الوثنيةِ

**

في الليلِ تتعمَّدُ الألفاظُ على ألسنةِ الشعراءِ

حين يعانون الجوعَ لروح قصيدتهم

فيحاصرون الأنثى لتضيءَ القحطَ

وتتسكَّع القصائدُ بين ثقوبِ الرؤيةِ ووهمِ التجلِّي

وحده الليلُ اللجيُّ يحتفظُ بتراتبيةِ القصةِ

وتلصُّصِ الشعراءِ ونفورِ الأنثى

**

في الليلِ يتسلَّلُ الصعاليكُ نحو البحرِ

في رحلةٍ خرافيةٍ نحو الضفَّةِ الأخرى

للبحثِ عن فتاتِ يقينٍ

وبقايا من خبزِ الراحةِ

يفتحُ البحرُ ذراعيه منتشيًا

يلقِّنُهم ما يشتهون

ويُعِيدُهم مرةً أخرى

مُرتسمًا في أعينِهم اليقينُ كاملا

فيرحلون مخبِّئين القصائدَ البِكْرَ

كي لا تمسَّها يدُ التأويل

**

وحده الليلُ يدركُ الخطوطَ المتعرِّجةَ في ذاكرتي

ليس للقلوبِ قوانينُ الطبيعةِ

ولا أبجديَّاتُ المجرَّاتِ

حين فهمتُ رموزَ الخطِّ الأعمقِ في ذاكرةِ الأرضِ

هاجمني الجرادُ

فكتبتُ قصيدةً

وعلَّقتُها على أستارِ قلبي

اتقاءً لجراد لم يتقنْ تأويلَ الأرض

لم يعرف غيرَ سكِّينٍ للذبحِ

وهمهمة

ومناجل تحصدُ القابعين على تخوم الحلم

وهزِّي إليكِ بأطرافِ الصحيفةِ

تسَّاقط القصائدُ العالقةُ في حلوقِ جرادٍ

لم يتقنْ تأويلَ الأرضِ

يربكه تصحُّرُ الذاكرةِ

فيلوذُ براياتِ التاريخ

كي يرسمَ الحدَّ الفاصلَ بين المتشابهاتِ

ويعيدَ تشكيلَ الملامحِ

وحين رسمتُ زيتونةً نبتتْ في عينيه سبعُ ليالٍ عجافٍ

أعقبتها سبعٌ من زمهرير

حدَّثتُ حبيبتي عن الحنينِ

فحدَّثتني عن سنابكِ الليل التي غزت قلبها

أيتها الحبيبةُ

كنتِ توهُّجَ الأنوثةِ في زمنِ الجفافِ

والحلمَ القابعَ في عينيْ نرجسةٍ

وأبجديَّاتِ الحياةِ لنهرٍ يتدفَّقُ من قلبي

في صحراء ضلوعي

كي يروي العطشَ الساكنَ بين شقوقِ الروحِ

مَنْ أغوى عينيكِ ببريق الزبد؟!

وأهداكِ في الليلِ جمرةً تستضيئين بها؟!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.