عودة مخيبة

عودة مخيبة

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو

فتح خالد صفحته على “فيسبوك” فوجد رسالة من صفحة لشخصية مجهولة تطلق على نفسها “قلب حزين” تقول: هل تذكرني.. أنا فريدة، لم أقاوم رغبتي في أن اكتب إليك وابعث لك بالتهنئة بعد أن رأيتك بأحد البرامج التليفزيونية وأنت تحكي عن قصة نجاحك.. كان هذا النجاح هو حلمي قبل أن يكون حلمك لكن شاء القدر أن يتحقق بعد رحيلي من حياتك.. كل ما اتمناه أن تعرف أنني كنت صادقة في حبي لك ولم اتعمد جرح مشاعرك.. هذا رقم هاتفي وانتظر اتصالك لأوضح لك حقائق وتفاصيل لا تعلمها”

بتهكم شديد قرأ خالد الرسالة ثم مسحها بدون تردد لكنه دون رقم الهاتف في ورقة صغيرة ووضعها في أحد أدراج مكتبه، ثم ذهب إلى غرفه نومه واستلقى في مخدعه وبدأت ذاكرته تقلب أوراق أعوام موجعة طواها بصعوبة

كانت فريدة خطيبته التي لم يحب سواها، وقبل إتمام الزواج بشهور طالبته بلهجة جارحة بأن يبتعد عن طريقها وبررت موقفها بأنها تتوقع بأن الحياة بينهما ستكون جحيما، تعجب من تغير موقفها، وعبثا حاول الوصول إلى أسباب هذه الإنقلاب المفاجئ في مشاعرها، ثم تزوجت من نجل شريك والدها في التجارة وانتقلت لمدينة أخرى وانقطعت أخبارها

على الرغم من أن خالد لم يتوقف كثيرا أمام الرسالة لكنها أثارت شجونه وظنونه عن أسبابها وتوقيتها، وافسدت فرحته بالنجاح الكبير لمشروعه في استنباط أنواع حديثة من المحاصيل الزراعية والذي اهتمت به جهات محلية ودولية، وكان هذا الحلم بمثابة أمل ينتظره منذ تخرجه في كلية الزراعة

تعرف خالد على فريدة في مؤتمر للأبحاث فقد كانت ضمن فريق الشركة المنظمة، وجذبت الأنظار نحوها بشدة لحضورها الطاغي ولباقتها في الحديث، كما أبهرت الجميع بأناقتها، وكان خالد أحد ضيوف المؤتمر ونال بحثه تقدير الخبراء الذين منحوه جائزة التميز، وحظي الباحث الشاب باهتمام فريدة التي كانت عيون الحاضرين تطاردها إلى أي موقع تنتقل إليه، طلبت منه رقم هاتفه للاتفاق على المشاركة في ندوات تنظمها الشركة

انتهى الحفل وخرج خالد ابن العامل البسيط ينتظر وسيلة مواصلات فقد كان المؤتمر في موقع على أطراف العاصمة، بينما مرت فريدة مسرعة بسيارتها الفارهة دون أن نتنبه له.. ظل يتأمل موقفها واِحتارَ في تفسير أسباب اهتمام هذه الفتاة به.

مر أكثر من أسبوعين ولم تتصل به فريدة، فظن أنها نسيته وأنه كان واهما باهتمامها به على نحو خاص وأن طلبها رقم هاتفه من ضمن مهام عملها، لكنه فوجئ باتصال منها تطالبه بإعداد بحث جديد للمشاركة في مؤتمر علمي تنظمه شركتها بالتعاون مع إحدى الجهات الدولية.. منحه صوتها العذب قدرة هائلة على الاجتهاد في إنجاز بحث رائع كان حديث الخبراء الأجانب قبل المصريين، وشعر بأن فريدة صاحبة فضل كبير عليه بدعوته لهذا اللقاء العلمي الكبير فتوجه إليها ليشكرها فقابلته بابتسامة عريضة وفاضت في حديثها عن إعجابها بنبوغه في مجاله فلمعت عيناه من كلماتها التي دغدغت أحاسيسه

تعلق قلبه بها وتكررت اللقاءات بينهما وعلى الرغم من تحفظها الشديد في حديثها عن مشاعرها إلا أن خالد كان متيما بها وغارقا في حبها وسعيدا بالظفر بقلب «جميلة الجميلات».. وبعد عدة شهور طالبته بالتقدم لخطبتها.. فظن أنها تتكهم عليه وهي ابنة الرجل الثري، بينما والده عامل بسيط، لكنها أقنعته بألا يتردد لأنها تجيد التأثير على والدها الذي يحبها ويدللها كثيرا فهي ابنته الوحيدة

انتظر خالد نحو أسبوع ولم تتصل به فريدة فأدرك أنها فشلت في إقناع والدها، وبينما كان غارقا في أبحاثه اقتحم عليه معمله أحد زملائه بالعمل ليخبره بأن فتاة فاتنة تستقل سيارة فارهة تقف بالخارج وتسأل عنه، هرول إليها مسرعا وكانت خفقات قلبه تسابق خطوات قدميه استقبلته بابتسامة رقيقة زلزلت كيانه وزفت إليه خبر موافقة والدها على التقدم لخطبتها، ثم صمتت برهة من الوقت وقالت له بأنه سيلتقي والدها وحيدا بدون أفراد أسرته، فارتسمت على وجه ملامح الغضب من هذا الطلب الذي اعتبره جارحا ومهينا.

عاد الصمت ليفرض نفسه على اللقاء دقائق.. ثم باغتته بلهجة تهديد بتأكيدها على أن هذا شرطها لإتمام الارتباط وأنها بصعوبة انتزعت موافقة والدها بعدما أقنعته بأن مستقبله كبير وأن ظروفه المالية سوف تتحسن بعد نجاح مشروعه العلمي، وكشفت له أن والدها حذرها من أن التفاوت الكبير بين أسرتها التي تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة وأسرته المتواضعة سيؤدي إلى مشاكل لكنها أصرت على موقفها

عاد خالد إلى بيته في أحد الأحياء الشعبية كان مهموما حزينا وكان يحدث نفسه بأن والده العامل في أحد مصانع البلاستيك لا يستحق منه هذا العقوق وتذكر كيف أصر والده على العمل بعد إحالته إلى المعاش لتدبير نفقات دراسته وأشقائه وأن هذا الرجل الطاعن في السن الذي أصابته هموم الزمن بانحناء في ظهره يتباهى به دائما بين أفراد عائلته، ومع رفاقه أثناء جلوسه على المقهى مساء

داهم خالد ضيقا كبيرا في صدره وصعوبة في التنفس ثم اعتراه شعورا بالسخط على المنطقة التي يعيش فيها إذ كان ينظر شَزَرًا إلى البيوت المتواضعة والشوارع التي تغرق بطفح المياه وفوضى وعشوائية الباعة الجائلين كأنه يرى هذه المشاهد للمرة الأولى، لم يغمض جفنيه وبات ليلته شاردا، لكن صورة فريدة لم تفارق مخيلته، ثم انتفض حاسما قراره بالسقوط أسيرا في مصيدة العشق والتنصل من واقع أسرته المؤلم

حددت فريدة له موعدا لزيارة والدها في «قصره وظهر الرجل الثري مختالا في جميع حركاته وتصرفاته وكان الكِبْر يسيطر على نظراته الحادة ٌوهو «ينفث دخان سيجاره الفاخر.. ولم يكسر حاجز الصمت سوى كلمات معدودة.. كان خالد مرتبكا يتعلثم في الكلام، وبصوت أجَشُّ قال والد فريدة أنه وافق على ارتباطه بابنته وأن الخطبة الأسبوع القادم، وشدد عليه بأن يحضر وحيدا.. وتمت الخطبة كما أرادت فريدة ووالداها اللذان قدما خالد للمدعوين بالشاب النابغة الذي ينتظره مستقبلا علميا كبيرا دون ذكر تفاصيل عن أسرته.

كانت فرحة خالد منقوصة لغياب والده وأشقائه وعاد لبيته حزينا لكنه لم يخطر أي منهم، ولاحظ والده حزنه وعدم تناوله الطعام معهم عدة أيام.. وبعد ضغوط كبيرة من الأب اعترف الابن وهو ينظر بخجل للأرض.. رشقه والده بنظرة حسرة وألم وانصرف دون أن يعاتبه بكلمة.. في اليوم التالي اتصلت به فريدة وأخبرته بأن والدها حدد موعد الزفاف بعد شهر وأنها ستمر عليه خلال ساعات للاتفاق على جميع التفاصيل.. زادت في امتهانه وهو مكبل بقيود الحب عندما طالبته بالذهاب إلى متجر للملابس الفاخرة وسيجد بانتظاره «بدلة الفرح» وملابس أخرى وأخبرته بألا يسدد أي مبلغ للمتجر لأن والدها دفع ثمنها.. عبثا حاول إقناعها بأن معه مبلغ كاف لكنها حذرته من غضب والدها لو علم أنه سدد قيمة الملابس.. رضخ لطلبها وعاد إلى بيته منكس الرأس يتوارى من والده وأشقائه وبحوزته أكياس الملابس..

قبل الزفاف بخمسة أيام وصلته رسالة على هاتفه من فريدة تخطره بأن ينساها ويفكر في مستقبله وأن والدها تراجع عن موافقته على ارتباطهما.. كانت الصدمة أكبر من «عبقرية خالد فانعزل فترة طويلة وحصل على أجازة من عمله.. ثم علم أن حبيبته تزوجت من ابن شريك والدها كان شابا عائدا للتو من دراسة الدكتوراه في الخارج والتحق بوظيفة مرموقة في السلك الدبلوماسي.. هنا استفاق الحبيب المخدوع من وهم العشق المزعوم وتأكد أن فريدة كانت ترى فيه المستقبل العلمي الكبير وأنها باعته بسهولة عندما عثرت على شخص يجمع بين المستقبل المبهر والعائلة العريقة

علم والد خالد ما حدث لابنه فذهب لغرفته واحتضنه بقوة وتحدث معه بحنان الأب وسط دموع الشاب.. طالب الأب ابنه بأن يكون فخورا بتفوقه وعلمه، وأزال الغشاوة من على عينيه وهو يوضح له بأن المال وحده لا يبني حياة سعيدة وأنه بعلمه سيكون ثريا بخلاف ما سيحققه من مكانة علمية.. أزاحت كلمات الأب هما ثقيلا من على قلب خالد الذي عاد لعمله في الصباح وبدأ في إعداد أبحاث جديدة متميزة فاز إحداها بجائزة دولية وصار حديث جهات علمية شهيرة وبدأ نجمه يسطع وتطارده وسائل الإعلام، ثم تزوج ابنة أحد أساتذته

نهض خالد من مضجعه بعد ليلة خاصم فيها جفنيه النوم ثم ذهب إلى غرفة مكتبه وظلت أطلال هذه الليلة الطويلة تحاصره.. وفجأة اقتحمت عليه وحدته طفلته الصغيرة فاحتضنها وقبلها وخلفها زوجته تحمل له فنجان القهوه.. بدون تفكير تسللت أصابعه نحو درج مكتبه بحثا عن الورقة التي بها رقم فريدة ومزقها ثم طالب طفلته بأن تلقي الوريقات بسلة المهملات.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.