في درب العشق

في درب العشق

نورة عبيد

اللوحة: الفنانة السورية رهام الهبري

 صباح الخير للحجر لأنه يذكّرنا أنّ الحديد عنصر مفارق لجوهره.

تركت العاصمة حتّى تستعيد هيبتها بارحت القصبة حتّى لا أرى وزارة الثّقافة معبرا لتحيّة العلم، مشرفة على غور النّجمات في سراديب “باب بنات” تُسائل القضاء: أين شمس الأصيل؟

عدت إلى دروب المنى من كلّية 9 أفريل إلى محطّة تونس الشّماليّة حتّى أستعيد مباهج وأتحسّس عاصمة لدولة تأبّر عطرها، وسيدي خيرالدّين التّونسي الشّركسي يواسي حلما هزئ له ابن خلدون!

من هناك، من الوريد المتقاطر تئن شوارع العاصمة فأعتذر للدّول الغربيّة ما تاقت الأسماء لأسمائها.

أوساخ وأشواك وأسلاك تمنعنا أن نهيب الدّولة وفي الشّارع الوحيد نستبدل بيع الزّهور والكتب بخيمة للصّناعات التّقليديّة؛ بلسم للشعر الأشعث وقطران لغسق النّور المنسحب.

 تطّل نجوى وأسألها عن مؤتمر النّهضة ودون ترتيب تخبرني أنّ صدّيق زوجها سيحضر وربّما يرافقانه إلى هذا الحدث، أخبرتها أنّ المؤتمرات التي تنصّب شيوخا لا حديث عنها فغيّرت وجهة الحديث وتابعتها في رضى.

لا أعرف كيف انسحبنا من شارع الحبيب بورقيبة نحو الأسواق التّقليديّة بباب بحر؟ كيف عدت أدراجي في درب العشق من الجامعة إلى البحر؟

وكيف أجبرت كمال أن يكون أنيسي في ترجّلي من باب بحر مدخل الأسواق التّقليديّة إلى نهاية شارع الحبيب بورقيبة بحلق الوادي وكم تعطّرت برائحة البحر الميّت على ضفّتي المسلك البحري نحو حلق الوادي كان يمشي وكنت أمشي

دخلنا الأسواق من المسلك الأيسر لأستمتع بالتّحف القديمة والتّراث التّونسيّ الأصيل وحتّى أتجنّب زحمة البيع والشّراء في المسلك الأيمن.

 استأنسنا بكلّ شيء؛ النّاس والرّوائح ودقّات الحرفيّين على الأواني الفضيّة والبلاط والأقبيّة ووجه اللّه المطلّ من الفجوج

اقترحت نجوى أن نحتسي القهوة العربي في مقهى الشّواشين فتسارعنا للوصول دون تفاصيل تعيد للقلب والدّرب أسى النّأي عن الأحبّة والمقرّبين

كعادته النّادل “محمّد” منذ عشرين سنة يستقبل الكلّ ببسمة عريضة ويهمّ بالتّسليم كلّما أعاده وجه الحريف إلى السّنين الخوالي سلّمت عليه بنفس الإكبار والرّحمة بالمتخلّقين فالثّورة لم تغيّر طبعه ولا هو غير مكين

شرعت أحدّثها عن التّفاصيل وبين حكاية وأخرى تطلّ وجوه استقرّت في الخاطر لوقت مديد

كانت قهوة مرّة إذ نحبّها دون سكر واقترحت أن نشتري “مطبقة” أكلة تونسيّة منذ الحضارة القبصيّة لتمحو هذه القهوة المتباطئة الوقع على القلب الذّاوي

سألت محمّد النادل عن العم حمادي مصوّرها فقال إنّه في ذمة اللّه سكت وسكتت نجوى وعدنا إلى فنجانيْنا بعواء اللّحظة الرّهيب ما عاد للغذاء معنى ولكن نجوى أضافت هي الدّنيا!

 لقد فقدت أمّي وأنا في العاشرة من عمري أمّا أنا فقد فقدتها في العشرين

لم يكن لفسحة العمر بيني وبين أمّي طويلا، بل لم يكن قصيرا كان نسيجا من أيّام البراءة الأولى فحسب أمدا من الحياة انشغلت فيه عنها بالحياة لأنني اعتقدت أن أمّي ملكي ولي أبدا وجرعة الموت عنها في سهو.

ينسحب الملك في فجوة من الدّهر عجيبة تتحجّر الآهات وئيدة وتتلبدّ الأفكار ويرتبك الوجود في خاطري ناجيّة.

وحدي أعلم أنّها ناجيّة، فلم يتذوّق العالم رحيقها ولا تشمّم عطرها، وحدي من رأى الفأر يغادر الجبال فسيّان ما في الكون من سرّ وبهاء ما دمت استفقت وهلة، أودّع أمّي في كفنها بقماط لم يكتمل المخيط.

فاح عطر غيابها ونصل الحنين يقدّ المستحيل قدّا فانبرى الإيمان بالفقد كالصّباح والمساء، كالماء والسّيجارة، كالحبّ

لابدّ أنّها هناك في الذّاكرة أستعيدها كما أريد وأطلّ عليها كما أريد من شرفة الأحياء والأموات كما أريد، من الصّالحين والصّابرين كما أريد، من المستحيل كما أراد

ما أردت مقاطعتها ولكن مشاركتها الإحساس دفعني إلى تهدئتها وإكبارا لوالديْ زوجي اللّذين برّدا حزني وأنبتا في خاطري تعريفا جديدا للأمومة

صالحة وصالح قمران من الوجد، فيض من الأشواق رهيب، كفّان من الزّمان دثّراني بالنّخل والزّيتون فتحا سماء البنوّة من جديد، أعادا نداء الأمّ في خاطري دثّراني بالحديث عنها دون بكاء أو عويل، كون من ولادة جديد، عطر الأمومة يقدّم إليّ في جلال بهيج، عطر أبدي لا يقرّ في قنينة ولا يستوفى من زهرة بل يرتحل في القلوب ويتعاظم بالوجد والشّوق.

عقارب السّاعة تسابق لقاءنا سيخيّم الغروب ولا بدّ لها أن تسبق أبناءها إلى المنزل، أمّا أنا فما زلت عند عتباتك وأنت تشرّعين باب الغرفة الخلفيّة على غرس البرتقال.

ما أنت! وأنت تهيّئين الغرفة الخلفيّة للزّهر يلين بالظّلّ في الظّلّ قبل أن تقطّري الزّهيرات، وتعتنين روحا بالرّوح، لطيفك المرفرف على روحي قطرات من ماء الزّهر تعيدك إليّ زهرة مع الزّهيرات أسمع الآن نقراتها على الفرش أشتمّ الآن ما فاح من عطر في أرجاء بيتنا المسيّج بالرّبيع يا شجيرات الأرنج الثّلاث لك الزّهر وماء الزّهر ولي الذّكرى والفكرة قطرة قطرة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.