حسن عبد الموجود
اللوحة: الفنان المصري طه القرني
نادرًا ما كنا نلبس الأحذية فقد أعتادت أرجلنا المشققة على أن تلامس الأرض بكل ما فيها من أتربة وحصى وقاذورات وأوحال وغير ذلك مما تعج به شوارع قريتنا الترابية.
لكن ذلك اليوم بالذات من كل عام كان يحظى منا باستعداد خاص لا تحظى به أيام الدراسة بل حتى أيام الأعياد، فمنذ الصباح تبدأ الطقوس المعتادة التي ننتظرها ونشتاق إليها رغم أنها لم تكن من طبيعتنا .
تضع أمي (رحمها الله) إناءً كبيرًا مملوءًا بالماء على (باجور الجاز) ثم تجهز (طشت الغسيل) و (صابونة وليفة) لمهمة قاسية ليست علينا نحن فقط بل على (الصابونة والليفة) ويد أمي الغالية.
لم نكن نهرب من الاستحمام في هذا اليوم بالذات فقد كنا – وللغرابة الشديدة – نستقبله في صبر وثبات شديدين لما ينتظرنا بعده من متعة لم نكن نحظى بها إلا مرة واحدة في العام.
تقوم أمي بإزالة طبقات الطين المتراكمة على أجسادنا منذ أسابيع بل علها شهور لم نكن نحظى فيها بهذه المياه الدافئة النظيفة المعطرة بالصابون.
فقد كنا نكتفي بماء الترعة الطيني الذى كنا نشارك بهائمنا الاستحمام فيه عند العودة من الحقل في ظهيرة كل يوم.
وبعد جهد كبير تفلح أمي في الكشف عن أولى طبقات جلدنا الحقيقي وبعد ساعة أو يزيد نلبس ملابسنا النظيفة وأحذيتنا البلاستيكية التي نكتشف أنها صارت أضيق بقليل عن العام الماضي لكننا نتحمل ذلك دون ضجر ولا يهمنا أيضًا أن جلابيبنا شبه الجديدة غير مكوية في بلدة لا تعرف الكهرباء طريقها فيها إلا لبيوت تعد على أصابع اليد الواحدة.
ينسينا الفرح ما قد نقاسيه من جوع فلا نكاد نتناول إفطارًا أو غداءً وننتظر بفارغ الصبر أذان العصر الذى كان إيذانًا بالانطلاق نحو (هوارة) حيث (مولد سيدي البقلي) .
ينطلق أبي بنا في رحلة اعتادها معظم أبناء قريتنا حيث نتلاقى جميعًا في الطريق بعضنا يقطع هذه المسافة التي تصل إلي ستة كيلو مترات تقريبًا من قحافة إلي هوارة مشيا وبعضنا – وهو ما كنا نعده ترفيها – يركب (المقطورة) وهي مركبة مكشوفة يجرها (جرار زراعي) حيث نرص فيها كأجولة القمح أو الذرة أو – وبكل تواضع – كقطعان الماشية التي يُذهب بها إلي السوق بين ثُغاء ورغاء.
وهناك .. قبل هوارة بقليل يقفز من يقدر من شباب القرية من المقطورة هاربين من دفع القروش الخمسة التي يحصلها صاحب المركبة بعد نهاية الرحلة.
لا أستطيع أن أصف لكم ما كان ينبض فينا من مشاعر فياضة عندما تظهر بهرجة المولد وأضواؤه وأعلامه من بعيد حتى أننا كنا ننسى صوابنا وكنا نجد أنفسنا نصيح من كل أعماقنا بلا وعي أو تفريق بين صغير وكبير.
إذن هذا هو المولد الذى كنا نتنظره على أحر من الجمر.
شارع طويل ملىء بالأضواء الملونة والأعلام المزركشة وبائعي الحلوى والحمص والفول والأحصنة والكرات البلاستيكية، وبضائع متراصة هنا وهناك في نظام بديع لم نعهده في قريتنا المبعثرة.
ومن بعيد تلوح لنا الأراجيح الدوارة العملاقة وحلقة الحاوي الواسعة التي كنت أسترق النظر إليها من فوق كتفي أبي.
لا أستطيع أن أنكر ما كان يقدمه لنا أهل هوارة من كرم زائد فقد كانت البيوت مفتوحة يقف أصحابها يتجاذبون بينهم الضيوف الغرباء وكل منهم قد أعد عدته وذبح خروفًا أو اثنين احتفالاً بسيدي البقلي الذى لا أعرف عنه غير هذا الضريح الأخضر الذى كان يقع وسط مقابر هوارة المضاءة.
سامحه الله أبي فقد قادني في طوافه حول الضريح متلمسًا قماشه الحريري الأخضر أميل بين حين وأخر لأقبله أسوة بالطائفين أمامي ولم يكن يعنيني ذلك في شىء فقد كان كل ما يشغل بالي أن ألتهم كميات اللحم العملاقة التي كانت تقدم لنا في منازل القرية وحول ضريح الشيخ.
ولم أكن أنسى أمي وجدتي وأختي اللاتي تحرمن من الذهاب لهذه الأماكن فأدس في جيب جلبابي الجانبي العملاق ما أستطيع من (هُبر) اللحم الضخمة.
وقبل منتصف الليل بقليل يصحبنا أبي في جولة بين البائعين. أكرمه الله لم يكن يحرمنا من شىء ننتقيه من حلوى أو أحصنة أو كرات ولم أكن أنسى أختي فأنتقي لها عروسة وبضع أساور من البلاستيك.
نعود آخر الليل في جماعات نحو قريتنا حيث تنتظرنا أختي هناك أمام بابنا الخشبي العملاق في قحافة بلدتنا الساهرة.
رحم الله البقلي الذي لا أعرف عنه شيئًا.
ورحم الله أمي فقد كنا نكلفها في هذا اليوم ما لا تطيق.