محمود عبد الصمد زكريا
لا شك أن ذهن المتلقى سوف يستدعى من الذاكرة كل ما هو مخزون بها عن سيدنا نوح (النبي)؛ أو لنقل: (نوح التراث) بمجرد قراءة هذا العنوان؛ وسوف يقف هذا المخزون المستحضر في حالة تأهب لربطه بما سوف ينطرح تحت هذا العنوان من محمول يخصه بشكل من الاشكال أو مستوى من المستويات؛ وبذلك يكون العنوان الذي اتخذ من اسم بطل العمل عنواناً قد شارك من البداية في تهيئة المتلقي بشكل ما وفي اتجاه ما شبه معلوم للمشاركة في انتاج العمل ومعاشرته بشكل إيجابي.. فيبدأ القراءة على ضوء هذه التهيئة:
ماشى بيناجى ف سِرُّه
سره ده صاحب قديم
زى ضِلُّه
سرُّه عمره ف يوم ما مَلْ
أو صرخ أو مرَّة كَلْ
(إلى هذا الحد ينسحب الخطاب الشعري أو يعود إلى ال (هو) الذي تحدده هاء الملكية في كلمة (سره) والذي هو (نوح) فهل هو نوح التراث الذي استدعته الذاكره من الماضي السحيق؛ أم هو (نوح) آخر آني معايش للشاعر: صديق أو أخ أو أب أو إبن أو شخصية جرَّدها الشاعر من شخصيته لتحل محله أتقوم مقامه.. أو حتى ضمير الشاعر ومجموعة قيمه أو.. أو.. إلى آخره.
هكذا يُجرِّد الشاعر شخصية من دواخل (نوح) أيَّاً كان هذا النوح هي (سر نوح) وينتج لنا العلاقة الحميمية بينهما كاشفاً عن بعض ملامح الشخصية المحورية للنص.. هذا على مستوى المعنى..
؛فإذا لاحظنا أن الخطاب مطروح في الزمن المضارع من خلال الأفعال:
(ماشي – بيناجي – بيبقى – بيقلع) عدا فعل ماض واحد هو (اتسرسبوا) العائد على الصحاب وليس على (نوح) فسوف يتأكد لنا أننا إزاء نوح معاصر هو:
(نوح القصيدة) وليس (نوح التراث)..
وكل ذلك قد جعل هذا المقطع كقطعة أو معزوفة موسيقية أضافت جماليات إيقاعية آسره لأذن المتلقي..
فإذا أضفنا ما ينتجه المقطع من مشهدية للعين تنجزها كاميرا الشاعر خلال رصدها لحركة المشي وصورة المناجاة بين (ذات نوح) و(ذات ظله التى جرَّدها الشاعر من داخله) وصورة الذات والظل وصورة سرسبة الصحاب من بين يديه؛ إلى آخره.. فإن تضافر حاستي السمع والبصر؛ مع الفؤاد الذي هو هنا السر أو الضمير؛ يضعنا بين يدي خلقٍ جديد؛ والشعرُ خلقٌ؛”والله أحسنُ الخالقين”.
ثم يأتي الربط بين الحالتين:
لحظة نزول السر ع الشاعر…مدد
حد النزيف
فيرتبط الداخلي المخبوء غير الملموس والغير مرئي؛ بالخارجي الظاهر الملموس المرئي:
فكرته بتمر من طوق الجسد
وتكون النتيجة أو الأثر:
وبتجعله مركز مدار الكون
وسيد كلمته
ومع تحول (نوح القصيدة) إلى هذا الطائر الجريح – كما تصوره كاميرا الشاعر – تبدأ العلاقة بين (نوح القصيدة) و (نوح التراث) وتبدأ قضية النص على المستوى الفكري في التبلور والتجلي:
نوح الطوفان ينده عليه: إركب معانا
يبتسم… حد البُكا
مش عاصى لكن
ف انتظار الفجر متسلسل.. وطن
تأتي لفظة: وطن هنا كمفصل شديد الأهمية لبلورة قضية النص / القصيدة؛ حيث تتشظى دلالتها لتعود على (نوح القصيدة) فيكون هو نفسه المقيد بالسلاسل في انتظار الفجر؛ بنفس القدر الذي تعود به على نفسها؛ حيث الوطن قد تقيد بالسلاسل في انتظار الفجر.. وتعود على الاثنين معاً حيث هما في حالة توحد..
وعند هذا الحد تطل ذات الشاعر التي كانت إلى هذا الحد في حالة حكي من الخارج؛ لتصبح مندمغة في لحم النص؛ وتبدأ علاقة (نوح القصيدة) مع الذات الشاعرة في التبلور والتنامي:
نوح الولد بيشدِّنى لعالم خَفى
ألعب معاه ف الطين ونتمرمغ أمل
يمسح على جبينى حياه من بعد موت
أحفر على جبينه وجع نقش السنين..
وف رحلته دايمًا بيخبط ف الزمن
يسقط كما السكران..
ألم الإحتكاك بيفجر الحكمة..
تحيةً للشاعر عمرو التركي؛ فقط أنصح أن يفصل بين المقطع الذي جاء على تفعيلة الرمل وباقي النص.