حسن عبد الموجود
اللوحة: الفنان الأميركي تشارلز ماريون راسل
حديثنا اليوم ليس عن رجل من شيكاغو، ولا غيرها من الولايات الأمريكية التي ذاع صيت رعاتها بملابسهم وقبعاتهم وجيادهم وحبالهم ومسدساتهم المعروفة، إن بطل قصتنا اليوم ليس رجلا ممن اهتم به إعلام الغرب فأنتج له مئات أفلام (الأكشن) أو ما نعرفه بأفلام (الكاو بوي) تلك التي ملأت شاشات العالم بمشاهدها المثيرة وأحداثها الدامية.
إن بطل قصتنا رغم علاقته الوثيقة بالأبقار واهتمامه الشديد بها إلا أنني لم أراه يوما يرتدي تلك القبعة الغربية المعروفة، فطاقيته الصوفية الصفراء لم تفارق رأسه إلا في ساعات الاسترخاء تحت نخلاته الثلاث بعد ساعات من عناء العمل في حقله أو حقول الناس.
لم أره يوما يركب جواداً قوياً كتلك الجياد التي يركبها رعاة الغرب ويطاردون بها قطعان الماشية ،فحماره الهزيل كان يكتفي بنقله إلى الحقل ثم يتمدد في الظل حتى يكرمه صاحبه بكومة برسم أو بعض أعواد الذرة الخضراء ثم يواصل خموله حتى يحين وقت العودة إلي البيت من جديد ،فقراريط بطلنا العجاف لم تكن تكلف حماره كبير عناء فانصرف عن الاهتمام بحماره إلي الاهتمام برأس ماله الحقيقي الذي كان يتمثل في جاموسته المعطاءة وهاتين البقرتين اللتين كانتا مثل سيف يشهره في وجه الفقر والحرمان ويستغني بهما عن مد يده للقريب والبعيد وينفق من خيرهما علي بضع بنات وولدين ما زالا أصغر من أن يحملا مع أبيهما المكافح عبئاً أو أن يرفعا معه فأسا أو أن يحرثا معه أرضا ،بهاتين البقرتين ومحراثه استطاع عمنا ربيع أن يعيش مستوراً رافع الرأس في عزة وكبرياء قلما يتمتع بهما أحد في قريتي بل قلما يتمتع بهما أحد.
قليلون في بلدي احترفوا هذه الحرفة الشاقة (حراثة الأرض) بالمحراث البلدي، فهذه المهنة تتطلب مجهوداً جباراً وبراعة كبيرة وأدوات كثيرة وبقرتين لجر المحراث، فانصرف أهل القرية عن هذه المهنة الشاقة التي تحمل عمنا أعباءها في قناعة ورضا، فبرغم تطور أساليب الزراعة واستخدام الكثير من أهل القرية المحاريث الحديثة إلا أن العديد منهم ما زال يستخدم المحراث البلدي (محراث عم ربيع) الذي يشق به الأرض بشكل أعمق يساعد علي زيادة خصوبتها.
ما أجمله من يوم ذلك الذي كنت أجلس فيه لأتناول الغداء في حقلنا مع ذلك الرجل المكافح الذي انتهي لتوه من العمل، ووقفت بقرتاه لتستريحا بعدما ألقي لهما كوم كبير من البرسيم، ما أجمل حكاياته التي كان يسردها لأبي والتي كنت أتلقفها بشغف قد يشغلني – علي غير العادة – عن طبق السمن والبيض أو قد ينسيني كوب الشاي حتى يبرد.
لا أنسى أبداً ذلك الوجه الأحمر ذا العينين الخضراوين وتلك الأسنان الصفراء حين كان ينفث من خلالهما دخان سيجارته ويحدثنا عن بطولاته الليلية مع ذئاب الحقل وصولاته وجولاته في الأسواق بين البيع والشراء، بين رشفة وأخرى من كوب الشاي كنت أتوقع حدثاً مروعاً جديداً، وبين نفثة وأخرى من السيجارة كنت أتوقع صاعقة أو زلزالاً أو عاصفة تهب علينا من بعيد، فحكايته المشوقة كانت تحملني إلي عالم آخر أكثر رعباً وإثارة من ذلك العالم الذي تحمله لنا شاشات (الكاو بوي).
لم تكن شجاعة هذا الرجل كلاماً فقط فما من موقف يحتاج إلي إقدام إلا وجدناه أسبقنا، وما من محنة تحتاج إلي تكاتف إلا وجدناه أصلبنا، فكم من مشاكل استعصت علي غيره فسعى في حلها في جرأة وعزيمة نادرتين، موقف واحد فقط انهار فيه هذا الصرح الشامخ فجأة أمام عينيَّ، لم يكن أحد يتوقع أن يلين الحديد فجأة أمام موقف طالما حدث وطالما شارك هو في حله.
كان ذلك قبل المغرب بقليل في أحد أيام شهر رمضان حيث اعتاد أهل القرية أن يعودوا قبل المغرب بوقت مناسب إلي منازلهم فإنك إذا صادف ودخلت أي قرية قبل المغرب بقليل في شهر غير رمضان فإنك ستجد شوارعها مملوءة بالفلاحين والماشية العائدة من الحقول أما في رمضان فإن الشوارع والحقول تكاد تكون خالية في ذلك الوقت من اليوم.
لا أدري لماذا تأخر عمنا ربيع في هذا اليوم في حقله ومالا أتذكره فعلاً هو لماذا تأخرت أنا وأخي أحمد أيضاً، إنه تقدير الله الذي أراد أن ينقذ هذا المسكين من كارثة محققه ،أخذت أحث أخي أحمد علي الإسراع حيث أن الشمس قد غابت تماما واستعدت السماء لتستقبل أذان المغرب ،هرولنا سوياً في الطريق المؤدية للقرية بجوار مجرى مائي يسمى (بحر الجبل) وتجاذبنا أطراف الحديث بينما لفت أخي نظري أن عم ربيع هو الآخر متأخر في العودة للمنزل،لاحظنا أنه قد توقف بحماره وبقرتيه علي شاطئ البحر ليروي ماشيته بينما ركب ابنه الصغير فوق ظهر جاموسته، وما أدراكم ما الجاموسة عند أهل القرية! إنها الخير كله فلبنها أوفر من لبن البقرة وسمنها وجبنها ألذ وأكثر قابلية من غيره فوجود الجاموسة في أي منزل قروي ضرورة ملحة لإطعام الكبير والصغير.
نزل الصبي من فوق ظهر الجاموسة حتى تنزل إلي مورد الماء وتشرب وفجأة وعلي غير انتظار غاصت رجلاها في الطين ثم هوت إلي قاع البحر العميق ثم انقلبت علي جنبها في الماء وهي تحاول الخروج دون جدوى.. في تلك اللحظة وصلت أنا وأخي إلي موقع الحادث ودون أي تردد قفزنا في الماء محاولين مساعدة الجاموسة علي الاعتدال قبل أن تغرق في المياه ،نزل عم ربيع مسرعاً من فوق حماره وترك البقرتين لأبنه الصغير وأمسك بالحبل المربوط برأس الجاموسة يشده إلي أعلى محاولاً إبقاء رأسها خارج الماء ،لم اهتم بملابسي التي امتلأت بالطين في الوقت الذي تردد فيه أذان المغرب في الحقول يملأ الأسماع معلنا انتهاء يوم طويل من صيام القرية الشاق ،كل ما كان يشغلني تلك الكومة من اللحم التي جعلها الله سبباً في حياة كومة أخرى، لأول مرة أراه يصرخ بهذه الطريقة الجنونية طالباً النجدة لكن ..لا أحد!
كان الموقف شديد الخطورة فلو تخليت أنا وأخي عن ظهر الجاموسة الذي نرفعه بكل ما أبقاه لنا الصيام من قوة لغاصت في الماء وسحبت معها حبلها الطويل وذلك المسكين الذي يتشبث بالحبل كآخر أمل له في الحياة.
بدأت خيوط الظلام تنسج ستارها الكثيف حول المكان وفي الماء بدأت تخور قوى الجاموسة وتستسلم للقدر المحتوم، حاولت أنا وأخي المقاومة دون جدوى حينما ألقت الجاموسة بثقلها فوق صدرينا المجهدين، كانت عبارات عم ربيع لنا تخلق داخلنا قوىً مجهولة لا نعلم مصدرها:
” رزقي ورزق العيال هيضيع يا ولاد”
” لو سبت الحبل الجاموسة هتفطس منا يا جدعان “
” البهيمة هتروح فطيس يا رجالة ”
كانت عبارة يا رب تنطلق من حناجرنا كأننا ننطقها للمرة الأخيرة في حياتنا، لم تعلمنا حياة القرية اليأس لكن تطور الأحداث بهذه السرعة المذهلة لم يترك لنا أي طريق للأمل.
كانت كل الإشارات توحي بليلة مظلمة حالكة السواد غير أن إرادة الله فوق كل إرادة ورحمته وسعت كل شيء، وما حدث لم يكن معجزة نبي ولا كرامة ولي لكنه من أكثر المواقف التي تذكرني بحب الله لعباده الفقراء ورحمته بهم،لولا الخجل لتخليت أنا وأخي عما بأيدينا فلم تعد لدينا قوى لنرفع أو لنستمر في الطين أكثر من ذلك، فأحرصُنا علي نجاة الجاموسة بدأ يكف عن التوسل وبدأ الحبل يتراخى بين يديه رغماً عنه حتى شق الأفق شبح قادم من بعيد.. إنه سعيد، سعيد علي، أو كما نسميه في قريتنا (سعيد الحاج علي)، لم يكن سعيد الذي كان في مثل عمري أقوانا لكن مالا أشك فيه أنه كان أذكانا، كان سعيد في طريق عودته للمنزل لكنه سمع صراخ الرجل المسكين فعاد ليحيي الأمل فينا من جديد.
وقف سعيد برهة يستجمع قواه التي نال منها الحقل والصوم وطول الطريق ثم قفز وهو يلهث في الماء وأخذ يدرس الموقف في صمت ويلف حول الجاموسة التي أوشك منقذوها على التخلي عنها ثم قفز خارج الماء مسرعاً وهو يقول لي: (تعالى ورايا يا حسن)، وبثقة تركت الجاموسة لأخي الذي استمات في رفعها من جديد بينما دبت الحياة في يدي عمنا ربيع فأخذ يجذب الحبل إليه كمسافر عثر على دابته الضالة بعد يأس من الحياة.
قادني سعيد إلي كومة من قش الأرز ثم احتضن كمية كبيرة منه وعاد مسرعاً ثم لحقته بكومة أكبر فقد فهمت ما يريده ذلك الداهية الماكر، قمنا بدس هاتين الكومتين الكبيرتين تحت جسم الجاموسة ليكون قش الأرز مثل وسادة تمنعها من الغوص أكثر من ذلك ثم خرج سعيد مرة أخرى وتبعته أنا وأخي بعدما أطمأننا علي استقرار الجاموسة وهرولنا نحو كومة القش تتبعنا دعوات الرجل الذي دبت فيه الحياة من جديد، أحضرنا من نستطيع حمله من القش ثم وضعناه بكل قوتنا تحت الجاموسة لنصنع لها وسادة أكبر ثم جعلنا نسحبها إلي داخل الماء حتى استقرت علي وسادة القش وخرجت أرجلها من الطين ثم عدت أنا وسعيد لكومة القش وأبقينا أخي ليحفظ استقرار الجاموسة التي استسلمت لنا في طواعية لا تصدق وأحضرنا كومتين أخريين ووضعناهما في المكان الذي غاصت فيه أرجل الجاموسة ثم أخذ سعيد يدك القش في قاع البحر حتى اطمأن علي استقراره تماما ثم لكم الجاموسة بقبضته فاعتدلت وقامت فوق وسادة القش الكبيرة ثم أخذنا ندفعها جميعا وأخذ عم ربيع يجرها بجنون غير مصدق لما يحدث حتى خرجت وسط صيحات الحمد والتكبير ما أعظمها من ليلة وما أعظمه من موقف عرفت فيه ما لم أكن أعرفه عن عمنا ربيع وعشت معه مغامرة من مغامرته الليلية المدهشة بل وكنت أيضاً بطلاً من أبطالها المعدودين.