لم ينتهِ القصف بعد

لم ينتهِ القصف بعد

محمد عبد الرحمن شحاتة

اللوحة: الفنان المغربي عبد الله الحريري

لم يتوقف القصف في تلك الليلة، عبر نافذةٍ مفتوحة نظرت إلى السَّماء التي تضيء من حين لآخر باللهب الأحمر وهو يرتفع معلنًا عن انفجارٍ حدثَ للتّو وأتبعته هزَّةٌ عنيفة، تقتلع كل شيء من جذوره وتقلبه رأسًا على عقب، وتنصت بأذنيها لضجيج المروحية التي تبتعد بعد أن أفرغت ما في أمعائها من دمارٍ فوق رؤوسهم، وتترقّب ضجيج مروحية أخرى تقترب كي تُدَمّر ما لَم تستطع المروحية السابقة تدميره.

قالَت لأختِها الصغرى التي ترقد خائفةً بجوارِها:

-أما كانَ من الأولى أن ترمي تلك المروحيات بالمؤونة والدواء فوقنا بدلًا من تلك القنابل التي تتسبب في إبادتنا؟!

قالت أختها الصغرى:

-الحربُ لا تعرف الرحمة.

أمواج الظلام المتلاطمة أغرقت البيوت والشوارع، لا مصابيح ولا أعمدة إنارة، ولا نيران راكية يستدير حولها الناس كعادتهم ليستغيثوا بدفئها من برد ذلك الشتاء القاتل، جرت العادة أن تنطفأ أضواء كل شيء في الليل خوفًا من أية غارة مفاجئة، حينها ترى المروحيات الأرض من الأعلى سوداء، هذه فرصة حياة أخرى، فكثيرًا ما تخطئ المروحيات أهدافها في الظلام.

كانت المروحية التي اقتربت قد أخذت في الابتعاد دون أن تقصف أهدافًا كما فعلت المروحية السابقة، فقط كان ضجيجها المرتفع يوحي بأنها تُحلّق على مسافة منخفضة، ربما مرَّت فقط كي تخبرهم بأنهم مازالوا هنا، وأنهم قادرون على قصفهم متى شاءوا، لمّا اطمأنت لرحيل المروحية رقدت بجوار أختها الصغرى وقالت:

-فكرة رائعة أن تنطفأ الأضواء، القذائف تسقط في أماكن بعيدة عن البيوت، نحن هكذا في أمان.

قالت أختها الصغرى وهي تصوب عينيها للنافذة:

-وماذا لو اقتربت المروحية وأشعلت ضوءها الكاشف؟

قالت:

-ولماذا لَم تُشعل المروحية ضوءها كي تُصيب أهدافها بدلًا من أن تُسقطَ قذائفها بعيدًا؟

-قالت أختها الصغرى:

-لا أدري، ربما أرادوا أن يقذفوا في قلوبنا الرعب، الحرب النفسية أشد فتكًا من القتل أحيانًا.

تلك الكلمات جعلت عينيها تفيضان بالدمع، في تلك الغرفة المظلمة التي تبقّت من المنزل المُدَمَّر، قضيا أول ليلة لهما بعد أن أصابت مروحية منزلهما بقذيفة دمَّرت كل شيء، الرّدهة والفناء وغرف المنزل الأخرى، لم تنجُ سوى هذه الغرفة التي أصابها القصف ببعض الشروخ في الجدران، غير ذلك راح كل شيء، حتى أبواهما وشقيقهما الأكبر، لقد أودى بهم القصف أيضًا، أما هُما فقد حالفهما الحظُّ بالنجاة كما حالف الحظُّ تلك الغرفة، لكن الشروخ أيضًا قد نالت من روحهما كما نالت من جدران الغرفة إثر فقدهما كل شيء.

لم يعد لهما سوى تلك الغرفة ذات الجدران المتشققة وتلك النافذة التي يطالعون منها السماء وهي تُضيءُ بين الحين والآخر بلهيب القذائف، لكنهما أكثر حظًا من غيرهم، البعض هنا فقدوا منازلهم كاملةً.

من بعيد جاء صوت مروحية تقترب وهي تشعل ضوءها الكاشف، كانت تحلّق على ارتفاع منخفض، ضجيجها يصمُّ الآذان كما يعمي ضوؤها الأعين، كانت تحلّق ببطئ شديد وكأنها تختار هدفها على مهلٍ، أحاطت اختها الصغرى بذراعيها لمّا رأت عبر النافذة قذيفة انطلقت من المروحية وسقطت في مكان قريب، ارتجت الدنيا من حولهما فصرختا، لكن صراخهما قد ضاع بين صراخ الكثيرين في الخارج.

الدُّخان الأسود طغى على كل شيء إلا صراخ الناس وهلعهم، بدا صوت أقدامهم وهم يفرّون مضطربًا، لكن يفرّون إلى أين؟ لم يتبق من البيوت سوى أجزاء بسيطة معرضة للانهيار في أي وقت، وتلك الهزّات التي تُسبّبها القذائف قادرة على إسقاطها.

لمّا تلاشى الدُّخان ضجّت الصرخات وارتفع النَّحيب، كانت الدماء تغرق الشارع، بينما اختلطت الجثث بأنقاض البيوت المهدومة.

-قتلى، ضحايا، جرحى.

لم يكن هناك سوى تلك الكلمات التي تتردد على خلفية من الصرخات والألم، وذلك المشهد الذي يتكرر كل يوم، بنفس تفاصيله البائسة، من كُتبت لهم النجاة يحملون القتلى والجرحى على أكتافهم حتى المشفى، كان المشفى قريبًا، لكن الشوارع الغير ممهدة والتي تعوقها أنقاض البيوت التي تم تدميرها تمنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الضحايا، لذلك لم يكن غريبًا أبدًا، أن تجد أكتاف الذين نجوا من القصف ملطخة بالدماء.

بدا ذلك المشهد مختلفًا من النافذة، وبرغم أنه يتكرر كل ليلة، إلا أنه بدا لهما في هذه المرة أكثر رعبًا، تلك الهزّة التي أحدثتها القذيفة الأخيرة ضاعفت من شروخ جدران الغرفة وجعلتها أكثر عرضة للانهيار، ربُما ليست بحاجة إلى قذيفة أخرى لتُسقطها، فقد يُسقطها دبيب الأقدام المتخبّطة التي تهرول في الشارع الممتلىء بأنقاض البيوت والقتلى.

قالت لأختها الصغرى وهي تكفكف دمعة تحاول الهروب من عينها:

-لو شعر قائدوا المروحيات بذلك الهلع، لو أنهم جرّبوا ليلة أن يكونوا في أماكننا هذه، لما ألقوا بهذا الدمار فوق رؤوسنا.

قالت اختها الصغرى وهي تربت على كتفها:

-الحرب لا تعرف تبادل الأدوار، القوي فيها لايمكن أبدًا أن يصبح مكان الضعيف.

صاح رجل من الذين يهرولون في الشارع قائلًا:

-لم نعد في مأمن هنا، لم يكفهم أننا نعيش بين الأنقاض، يأتون لقصفنا أيضًا، لم يعد أمامنا سوى المخبأ.

على الفور تحرك الجميع نحو المخبأ في طابور تَقَدَّمه ذلك الرجل الذي صاح فيهم، هما أيضًا قد التحقتا بذلك الطابور الطويل، كان الطابور مكوّنًا من عجائز يستندون على أكتاف صغار السن، ونساء يحملن أطفالهن، ورجال خارت قواهم من حمل جثث القتلى وأجساد الجرحى، وفتيات يدارين ما تمزق من ثيابهن، حتى هما، كانتا تستندان على بعضهما البعض.

عند دَرَجٍ ينحدر للأسفل، وقف الرجل الذي تقدّم الطابور، أشار إلى العجائز والنساء كي ينزلن إلى المخبأ أولًا، كان المخبأ يقع تحت الأرض بمسافة تمنحهم بعض الطمأنينة حتى الصباح، إلى أنه ربما لن يصمد كثيرًا إذا أصابته قذيفة تلو الأخرى، حينها سوف ينهار فوق رؤوسهم وينقلب إلى مقبرة جماعية، إلا أنه لا بديل له، فلطالما أشعلت المروحيات ضوءها الكاشف فلا عاصم من قذائفها.

نزل الجميع إلى المخبأ إلا هما، فقد وقفتا على الدَّرج تنظران إلى المخبأ الذي تكدّس بالهاربين من الغارات الليلية، يفترشون الأرض ويسندون ظهورهم إلى الحائط، لقد مرّتا بذلك المشهد كثيرًا، لم تعد تجدي حيلة إطفاء الأضواء للهرب من الغارات، لقد أصبحت المروحيات تمتلك إمكانات تفوق تلك الحِيَل القديمة.

قالت للرجل الذي مازال يحثُّهما على النزول:

-لقد قصفت المروحيات المنطقة أكثر من مرة تلك الليلة، لم يعد هناك ضرورة للمبيت في المخبأ، لقد انتهى القصف.

ما إن انتهت من كلماتها حتى بدا صوت مروحيات قادمة من بعيد، كان أكثر ضجيجًا ورعبًا، كانت الأضواء الكاشفة تعلن عن أربع مروحيات في طريقهم لكتابة سيناريو آخر من القتل والدمار، حينها نظرت إليها اختها الصغرى وقالت:

-لا، لم ينتهِ القصفُ بعد!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.