محمود عبد الصمد زكريا
الدين هو الأصل في نشأة الفنون جميعاً:
ذهب “دور كايم” إلى أن “الدين كنظام اجتماعي هو الأصل في نشأة الفنون جميعاً”، ووافقه “ريموند بايير” في قوله المشهور “أن الفن إنما نشأ بين جدران المعابد”.. كما قرر فيشر “أن الرابطة الوثيقة بين الفن والعبادة ظلت قوية ومتينة وأنها لم تضعف بعد ذلك إلاَّ بالتدريج” وهكذا فإن العقيدة الدينية كانت دائماً وستظل ذات أثر ملموس في كل الأطوار التي مرَّ ويمرُّ بها الفن.
وقد جاء في الشعر الصوفي قول أحدهم:
قَوْمٌ هُمـومُهـمُ بِاللَّهِ قَدْ عَلَقتْ
فَمَا لَهُمْ هِمَــمٌ تَسْمُوا إلىَ أَحَدِ
فَمَطْلَـبُ القَوْمِ مَوْلاَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ
يَا حُسْنَ مَطْلَبِهِـمْ لِلْوَاحِد الصَّمَدِ
ونحن مع هذا المشروع الشِعري للشاعر ناجي عبد اللطيف بين يدي شاعر يؤسس نظريته الشعرية على أن الحياة شِعر؛ والشِعر جمال الكمال؛ وجمال الكمال نظام إيقاعي.
المثولْ في ساحةِ الجذبَةْ.. هذا هو عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة؛ والتي ما زالت تحت الطبع للشاعر ناجي عبد اللطيف والتي تجئ – كما نري – لتؤكد حل إشكالية الغربة المعنوية أو الاغتراب النفسي وليس الغربة المكانية أو الاغتراب الجغرافي الذي تميزت مجموعاته السابقة التي أنجزها على مدى زمني يمتد عبر أكثر من ثلاثة عقود بتباهي هذه المعاني خلالها.
إذن تتصدر لفظة (المثول) مؤكدة لمعنى الوصول الحقيقي ماديا ومعنويا؛ وإزاحة معاني الاغتراب بالحلول الجسدي والمعنوي في ساحة الجذبة.
يقول الفقيه الصوفي أحمد الدرديري:
ومُنَّ علينا يا ودودُ بجذبَةٍ..
بها نلحق الأقوامَ من ساروا قبلنا.
فالجذبة.. كما عرّفها الشاعر نفسه في مقدمته لهذه المجموعة هي: “منحة روحية تعينُ المريدَ على الخلاصِ من شِباك النفسِ؛ والتحرر من أنانيته وأرضيته؛ فلا يجد أمامه إلاَّ حب الله ورسوله وأهل الرقي ممن ساروا قبله في الطريق إلى الله.”
وكل ذلك مما يوحي بأن تجربة شاعرنا حياتياً وفنيا ً إن هي إلا عبارة عن رحلة للوصول إلي هذه الساحة والمثول بها؛ وإذا كان هذا الوصول – كما يرى شاعرنا – هو أمر يفوق طاقة الفرد؛ فهو يحتاج بالضرورة لمن يأخذ بيده ويعينه عليه بتوضيح معالم الطريق وفتح مغاليق الدروب وفك شفرات أو أسرار خرائط المسالك؛ وتحديد اتجاهات مؤشر بوصلة الرحلة.. يقول شاعرنا:
“وهي لا تتأتي إلاَّ علي يد شيخٍ كاملٍ؛ يأخذ بيد مريده ليصل به إلي من سبقوه من أهل الإيمان – أهل الحضرة – حضرة الخصوص؛ فيشدوه إلي الله تعالى.
فهي جذبة من الجذبِ والشد؛ متجردة لله الواحد – جذبة كمال – لا جذبة عجلة؛ جذبة ودٍّ من الودود سبحانه.”… وهي تأتي للمريد عن طريق مجالس العلم؛ والتأني في الدخول في الحضرة؛ والأدب ظاهره وباطنه؛ أدب الجوارح – وأدب الخواطر؛ لكي يستحق مقام الرجال.
ادبٌ في الدخول بنيّةٍ صادقة؛ وأدبٌ في الوقوفِ علي الحدودِ والالتزام بإخلاص،
حينئذٍ.. ينال ثوابَ المجاهدة؛ ويفوز بثواب التبصر؛ فتقوى البصيرة؛ ويترقى المريدُ… وتظل المجاهدة معلقة حتى آخرَ دقيقةٍ في التكاليف.
هذه حقيقة الجذبة التي تشد المريد؛ وتضعه في ساحة الإعدام ليقتل نفسه إرادياً.. فيصدق فيها قول الشاعر علي عقل:
قتلتُ هوى نفسي؛ فعشت بلا نفسي.
حينئذ.. تصفو النفس من أدرانها؛ وتستحق الدخول في الحضرة الألهية.
لذا، فإذا كان العنوان هو العتبة الأولي للدخول إلي عالم هذه المجموعة الشعرية؛ فإن الإهداء يأتي بمثابة عتبة ثانية؛ حيث يقول الشاعر:
” يا شيخي العارفَ بالله
يا من أحببتَ..
فأعطيتَ..
وأوليتَ..
فأبقيتَ..
كُنْ.. لي.
ما بين الفعلِ..
وبيني.
كي تأخذني بيديكَ.
إلي ساحة جذبتيَ الصدقِ..
فأحظى بالعتقِ..
فأحيا باللهِ..
وفي اللهِ..
وللهِ الواحدْ.”
ثمة تقنية بنائية؛ وأخري فنية قد اعتمدهما الشاعر لإنتاج هذه التجربة..
تتبلور التقنية البنائية بشكل عام في تقسيم هذا المنجز الشعري إلي قسمين بعد المقدمة النثرية والإهداء الشعري.. يأتي القسم الأول تحت عنوان (إسراء القلب) ويتكون من عشرة مقاطع؛ ثم يأتي القسم الثاني تحت عنوان (معراج الروح) مستفيدا ً كما هو واضح من رحلة الإسراء والمعراج للرسول صلي الله عليه وسلم.. ولعل العنوانين يشيان بوضوح بمضمون التجربة ويهيئان التلقي لما يمدانه من أرض ومناخ سوف يجوس خلاهما المتلقي..
ولقد اعتمد شاعرنا تقنية فنية مبدئية في تجريد شخصية من نفسه لتكون معادلا موضوعيا لذاته هي (صاحبه) واتكئ علي مجموعة من التقنيات الأسلوبية كالحوار المباشر والتساؤل والتقرير والمناجاة التي تنطوي علي الدعاء والرجاء والتضمين من شعر مجموعة من شعراء المتصوفة لبلورة هذه الرحلة أو التجربة بادئا ً مع المقطع الأول ببلورة الحالة إجمالا ً بين الواقع والحلم أو بين التحرر والخنوع:
(1)
أطرَقَ القلبُ
حين أتي صاحبي..!
لم يُجبْ عن سؤالي بعدُ..!
ما الذي يملكُ الآنَ..
بعد احتراق العُمُرُ.. ؟!
ما الذي..يملك الآنَ..
بعد احتراق الشموعْ. ؟!
غيرَ دمعٍ يرفُّ..
يلوذ بحلمٍ أسنْ.
ها أنذا أمرُّ وحيداً
أحاول أن أستعيد بكارة حَلمٍ
تبدَّدَ في أروقةِ النهارِ الردئْ.
أطرَقَ القلبُ..
لكنهُ..
لم يزل…
يرفع الرأسَ..
يأبي الخضوعَ..
لسيف الخنوعْ.
فإذا لاحظنا جلياً منذ البدء أن التجربة ترتبط بالقلب وليس بالعقل (أطرق القلب)
حيث يحل القلب محل العقل؛ فإن الدلالة تنزاح إلي الفضاء الإيماني وتنفتح عليه بقدر ما تنغلق علي الفضاء الذهني المرتبط بالعملية السببية؛ فنجد أننا بين يدي حالة من التقوى؛ وعلاقة تعني بمسبب الأسباب وليس بالأسباب و تربط ما بين إطراق القلب ورفع الرأس فيكون رفع الرأس فيها بمعني التوجه إلي الله أو الدعاء:
أطرق القلبٌ.. لكنه لم يزل يرفع الرأس.
ثم تبدأ الحالة في التكشف والتجلي من خلال الحوار والتساؤل مع المقطع الثاني:
الغمامُ الذي..
في سمائِكَ يا صاحبي..
لا يبينْ.
سَفرٌ.. يحمل القلبَ..
كي ينبضَ بالموتِ..
حين يود الحياة..
عسى نحوها يسترد الذي
ضيَّعته الغماماتُ؛ والأسئلةْ.
في الطريق الحزينْ.
للغة الشعر أيها السادة في خلق الشعر شؤون.. فهي كل يوم هي في شأن،..
نعم إن للشعر لغته وهو لا يزال على هذا النهج يسير، إنه في رحم الصيرورة قد دنا فتدلى، ثم دنا فتدلى فكان كتابة أخرى. وإذا كان هو كذلك، فبأي نموذج نتنادى، وعلى أي قانون نتقاطر؟
سَفرٌ.. يحمل القلبَ..
كي ينبضَ بالموتِ..
حين يود الحياة..
إنه مفارقة، وخرق، وكسر معيار..
وكم يذكرني هذا القول بقول الحلاج الصوفي حين يقول:
“الحب الصادق؛ موت العاشق؛ حتى يفني في المعشوق.. “
إنها فرادة إنشاء، ووحدانية تكوين… ورب شيء تبدعه رؤى اللغة الشعرية، فيتخلق أمشاجاً، فصوراً، فكلاماً، فيكون ولا يكون كمثله شيء.
آهِ.. يا صاحبي..
إنها.. رحلةُ المرءِ
حين يُضيّعُ خطوة قلبٍ..
بتيهٍ..وجُبٍّ عميقْ.
هل لنا من إيابْ؟
أم ضللنا.. ونحن جلوسٌ..
تحت غيمةِ هذا الفؤاد العليلْ؟
الغمامُ.. الغمامْ..
في سمائِكَ يا صاحبي
لا يبينْ..
صوت:
“يا طالباً لطريق السِرِّ تقصده..
ارجع وراكَ ففيكَ السِرُّ أجمعه” (محي الدين بن عربي)
هكذا.. يظلَّ الشعرُ دوماً، مَعيناً يرده الصوفيون للارتواء من نبعِ التعبير الصادق، وأداةً مناسبة لتصوير أدق حقائق الطريق لمنابع النور الإلهى، سيراً بأقدامِ الصدق والتجردُّ عن الأكوان وطيراً بأجنحة المحبَّة، لاختراق سماوات الأحوال والمقامات.. حتى تحطَّ عصا الترحال والسفر، عند خيام القرب من الله
يقول شاعرنا:
سَفرٌ..
من بدء التكوينِ..
إلي بدء التصويرِ..
إلي بدءِ البدءِ..
إلي رحمِ القلبِ..
سَفرْ.
آهٍ..
من طول الرحلة..
يا مولاي..
حين اشدُّ الزادَ..
وأخلع نعلي..
أصعد نحو سماكَ..
آهٍ..
من يعرج بي..
في ليلة عُرسي..
فيطوّف قلبي..
بالبيتِ المعمورِ..
ويسلك نحوكَ..
يا مولاي سبيل لقاكْ.
صليتُ..
بطيبة بالأمسِ..
واتيت إلي سيناء..
دعوتك ربي..
أن تمنحني ذِكرَ الأنفاسِ..
وأنفاسَ الذكرِ..
ما مل القلبُ من الدعوات..
ما مل القلبُ..
مررت بلحمٍ..
آهٍ..
من بشري الروح..
إذا مرَّ علي مريم إبنة عمران..
فهززت إليَ بجذع النخلة!
آهٍ.. يا مولاي..
من شوقِ الشوقِ..
إلي لقياكْ.
الانَ..
إلي بيتِ المقدسِ..
أسعي..
أتهيأ يا مولاي..
لكي أدخلَ..
أركعُ في قدسِ الأقداسْ.
آهٍ.. يا مولاي..
من فعلِ الربِّ..
بقلبِ العبد..
إذا ما سجدَ القلبُ..
تحققَ..
يا مولاي القربُ..
وحسبْ.
تلك إذنْ..
آية عشق خطت من نور.
آهٍ.. من نور النورِ..
إذا ما شق الحجبَ..
وطلّْ.
آهٍ..من نورِ النورِ
إذا ما شق الحجب.. وطلْ.
هكذا إذن تشيع ألفاظ مثل السفر والرحلة والقرب والبعد والسعي والشوق والحجب.. والزاد والصعود والمعراج…الخ.. وسوف نجد أسماء الأماكن مثل طيبة وسيناء وبيت لحم وبيت المقدس وأسماء شخوص مثل أبينا آدم و مريم أبنة عمران والمسيح وهارون وإبراهيم الخليل وموسى الكليم ويوسف الصديق والنبي إدريس:
رأيت أبينا (آدم)
فكان (المسيح) علي بابها
(يوسفُ)
يا صدِّيقُ..
أجبني..
حيث يقيمُ نبي اللهِ..
(إدريس)
حيث أقابل (هارون)
فانتظرتُ..
مجئ أخي (موسي)
وإذا بي..
أمام نبي الله (كليمه موسي)
أبصرتُ أبانا (الخليل)
علي حائط ِالبيتِ يسند ظهرَهُ.
إنه نداء النائيات؛ أو اشتياق الحضور للغياب؛ أو لنقل مبدأ المسافة.
أليس مبدأ المسافة هذا مبدأ صوفي بامتياز؛ حيث تؤمن الصوفية بأن الأشياء لا تكابد رهقا مثلما تكابد الفراق والفصال والرغبة الحارة في اللقاء والإندماج..
لا شك أن شاعرنا / ناجي عبد اللطيف هو الشاعر الأقرب إن لم يكن الوحيد بين أترابه ممن جايلوه بالإسكندرية إلي الصوفية؛ ولعل هذه المجموعة تحديدا قد بلورت ذلك بما لا يدعو لأي شك بعد ما أرهصت مجموعاته السابقة بذلك.. لذا فإن شاعرنا يبدأ بعد هذين المقطعين في التخلي عن تقنية المعادل الموضوعي لتخلص التجربة إلى مناجاته مع الله ويكون الحوار ما بينه وبين ربه متصلا؛ فيكون الشعر صلاة القلب:
رباهُ.. يا رباهُ..يا رباهُ..
الدربُ.. يعلك الخطي..
والقلبُ.. يرقب الضبابَ..
والأسي.
فأينَ..أينَ المنتهي ؟
أواهُ.. من طول السفرْ !
تحت الغمامِ..
لم أزلْ..
ولمْ يزلْ.. خطوي هباءْ.
رباهُ..
يا رباهُ.. يا رباه.
أكرم بخير الخلقِ
قلبي العليلْ.
رباُه.. يا رباهُ.. رباه
أنتَ المعينُ..
أنتَ ربيَّ في عُلاك.
تقدَّستْ أسماؤكَ الحسني..
فمن سواكَ يا غيَّاثَ المستغيثينَ..
يغيثُ.؟
صوت:
السِرُّ فيكَ..
وحدَكَ السِرُّ..
فالزمْ.. حدودَ القلبِ.. وانتصرْ.
ما بين جنبيكَ..
الفؤادُ ينكسرْ.
والعمرُ..
بين البينِ..
يمضي مُستترْ.
العمرُ..
بين البينِ..
يمضي مُستترْ.
والجدير بالذكر هنا هو أن شاعرنا ناجي عبد اللطيف لم يلجأ كغيره من الشعراء الصوفيين كما عرفنا عنهم إلي أن يرمز عن الذات الإلهية؛ لكنه يتوجه بالخطاب مباشرة إلي الله؛ ولعله لم يلجأ لذلك خشية أن يٌحمل خطابه علي أي محمل آخر غير محموله المراد منه؛ أو أن يؤول علي غير ما يحب الشاعر.. حيث من أبرز هذه الرموز وأكثرها وروداً فى الغالب الأعمِّ من شعر الصوفيةِ، هو إشاراتُهم للذَّات الإلهية بمحبوبات العرب المشهورات، مثل ليلى وهند وسلمى ولبنى.. وغيرهن. فمن ذلك ما نراه عند عفيفِ الدين التلمسانى حين يريد التعبير عن رؤيتِه لآثار جمال الذات الإلهية فى الكون، فيقول:
مَنَعَتْهَا الصِّفاتُ وَالأَسْمَــاءُ
أَنْ تُرَى دُونَ بُـــرْقُعٍ أَسْمَــاءُ
قَدْ ضَلَلْنَا بِشَعْرِهَـا وَهْوَ مِنْهَا
وَهَــدَتْنَا بِهَــا لَهـَا الأَضْـوَاءُ
نَحْنُ قَـوْمٌ مِتْنَـا وَذَلِكَ شَرْطٌ
فِى هَـوَاهَـا فَلْييْــأَسِ الأَحْيَاء
إلا أنَّ هذه الرموز ليست بحالٍ من الأحوال مسوِّغاً للوقوف عند هذه المظاهر والوجود المستحسنة، وإنما هي محضُ تلويحاتٍ يوهم بها الصوفي العامَّةَ بأنَّ محبوبه إنساني، صوناً لسرِّ محبته من الشيوعِ فى غير أهله، وإشفاقاً على السامعين من أهل السلامة أن يفتتنوا بصريح أقواله. وعلى الحقيقة، فليس للصوفي توقف ولا كلام، إلا فى محبة مولاه عز وجل، ولهذا ارتاع ابن عربي حين سمع من مريديه أن ديوانه (ترجمان الأشواق) حمل على المعنى الظاهر، وأنه اتُّهم بغزل ابنة شيخه تصريحاً.. فشرح ديوانه شرحاً ذوقيّاً، منه قوله:
كُلُّ مَـا أَذْكُــرُ مِنْ طَلَـلٍ
أَوْ رُبــوُعٍ أَوْ مَـغَـــانٍ كُلُّ مَا
وَكَذَا إنْ قُلْتُ هِى أَوْ قُلْتُ هُو
أَوْهُمـوُ أَوْ هُــنَّ جَمْعــاً أَوْ هُمَا
كُلُّمَا أَذْكُـــرهُ مِمَّا جَـرَى
ذِكْرُهُ أَوْ مِثْلُـــــهُ أَنْ تَفْهَمَـا
مِنْهُ أَسـْرَارٌ وَأَنْـوَارٌ جَلَـتْ
أَوْ عَلَــتْ جَــاءَ بِهَا رَبُّ السَّمَا
فَاصْرِفِ الْخَـاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا
وَاْطُلبِ الْبَـــاطِـنَ حَتَّى تَعْلَمَ.
هكذا يخلص شاعرنا ناجي عبد اللطيف بصوته على غير شاكلة الشعراء المتصوفة مخالفا لبعض طرائقهم؛ لائذا بشفافية دون تعقيد؛ وصفاء دون إلغاز أو تهويل في بث مواجيده:
حُجبٌ من نورْ.
ذاك مُقامك.. فالزمْ.!
ما بين حجاب.. وحجابْ.
أنوارٌ من فيض الله.
الله..الله
الله…الله.
الله..الله.
انتَ بأعتاب الحضرة يا إنسان
حجبٌ من نور..
تهرب من بين البين..
كثافات الطين.. تشفُّ..
ترقُّ.. ولا تملك إلاَّ
أن تعشق أنواراً..
من عينِ الحضرةِ..
إذ غيض الطينُ..
ولاحتْ..
في الأفقِ ترانيمُ الوجدِ..
تلومكَ حيت تهمُّ..
بغيمة نفسك كل مساء..!
وحيث الخاصية الثانية فى الشعر الصوفىِّ والتي تبلور هذه المخالفة أيضاً، تبدو فى هذا القدرِ من التهويل والمبالغة، اللذين نجدهما فى الأبيات التى يعبِّر فيها الشاعر الصوفىُّ عن الأحوال غير العادية التى يعايشها، والأمواج العالية من الأنوار التى يعاينها. وتظهر تلك الخاصِّيةِ بأوضح ما يكون، حين يحكى الشاعر الصوفى عن محبته وما يلاقى فيها من وَجدٍ وشوقٍ واحتراق كمثل قول الشاعر الصوفي:
وَطُوفَانُ نُوحٍ عِنْدَ نَوْحِى كَأَدْمُعىِ
وَإيقَـادُ نِيراَنِ الخلِيــلِ كَلَـوْعَتِى
فَلَوْلاَ زَفيـرِى أَغْرَقَتْنَى أَدْمُـعِــى
وَلَوْلاَ دُمُـوعِـى أَحْرَقَتْنِـى زَفْرَتِـى
وَحُـزْنِىَ مَـا يُعْقُـوبُ بَثَّ أَقَلَّهُ
وَكُلُّ بَــلاَ أَيُّــوبَ بَعْضُ بَلِيَّتِ
والتى لاتخرج عن الإطار العام لتهاويل الشعر الصوفى كقوله:
فَلَوْ أَنَّ لِـى فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةِ
ثَمَانِيــنَ بَحْــراً مِنْ دُمُوعٍ تُدْفِقُ
لأَفْنَيْتُهَا حَتَّى ابْتَـدَأْتُ بِغَيْرِهَا
وَهَذَا قَلِيــلٌ لِلْفَتَــى حَينَ يَعْشَقُ
أُهِيمُ بِهِ حَـتَّى الْمَمَاتِ لِشَقْوَتِى
وَحَـوْلِى مِنَ الْحُبِّ المبَرِّحِ خَنْــدَقُ
وَفَوْقِى سَحَابٌ يُمْطِرُ الشَّوْقَ والْهَوَى
وَتَحْـتِـى عُيُــونٌ لِلْهَوَى تَتَدفَّقُ.
وإذا كان ناجي عبد اللطيف قد خالف بعض الخصائص العامة للتراث الشعري الذي تركه المتصوفة كما أوضحنا في الخاصيتين السابقتين إلا أنه يتوافق أو يتشارك مع سمات أخري كالجناس الذي نجده عنده وعند ابن الفارض مثلا وتوالي المترادفات كما عند ابن عربي والتدفق الإبداعي كما عند جلال الدين الرومي؛ والمديح كما عند البوصيري.. لذا نجد تضمينات شاعرنا يأتي معظمها من إبداع هؤلاء مشيرا إليهم في هوامش الصفحات من مثل:
“زدني بفرط الحب فيك تحيّرا
وارحم حَشاً بلظي هواك تسعّرا” (عمر بن الفارض)
أو “لعل رحمة ربي حين يقسمها..
تأتي علي حسبِ العصيان في القسمِ
إن لم تكن في ميعادي آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقلْ يا زلة القدمِ.
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه
أو يرجع الجارُ منه غير محترمِ
مولاي صل وسلم دائما أبداً
علي حبيبك خير الخلق كلهم” (شرف الدين البوصيري)
أو:
“يا طالباً لطريق السِرِّ تقصده..
ارجع وراكَ ففيكَ السِرُّ أجمعه” (محي الدين بن عربي)
وبعد..فأيّا ما كانت المناهج التي راحت تقيس أو تصنف درجات الشعرية في القول؛ فسوف تظل الشعرية كامنة في مدي تحقق فكرة انفتاح الوجود داخل الذات الشاعرة؛ ومدي تبلور قدرة الممكن على اللانهاية؛ فيكون دائماً في الإمكان أبدع مما كان.. وحيث كل جهد معرفي يثير شعوراً؛ وكل شعور يحرك معرفةً هو فتح ٌ لا يتوقف عند حد؛ أو – فتوح مكية – بحسب ابن عربي -.. وهذا مبدأ شامل؛ ولا شك أنه مبدأ جدلي خصيب؛ ومعطاء؛ ولدى تطبيقه على الأدب؛ وخاصة الشعر؛ فإنه سوف يفضي إلى فكرتين كبيرتين:
أولاهما: تتلخص في حرية الإبداع مادام أن ليس ثمة حدود يرتطم بها العقل فيتعطل عندها.
ثانيتهما: تنطوي على أن النص الشعري يقبل شتى التفسيرات؛ ومناهج التأويل والنقد دون أن يتمتع أي منها باحتكار المصداقية لنفسه؛ أو بالحق في نفي الآخر..؛ وهكذا تكون مساحة بلا تخوم قد انفتحت أمام كل من الشاعر والناقد معاً؛ مما يعني أن كل انحباس داخل أية منظومة منهجية هو ضرب من التحجر والجمود.
ومما هو ناصع تماماً أن القول بانفتاح الدلالة وانفتاح الوجود الدائم إنما يرمي إلي واقعية بلا حدود أو بلا ضفاف؛ فمن طبع النفس الشاعرة أنها خيالية تتبرم بالحدود وتبغضها؛ وهذا التبرم هو ما يدفعها إلي إفراز الرؤي؛ وشتي صنوف الأخيلة التي تمكنها من الفرار إلي الرحاب الواسعة المنداحة بكل اتجاه؛ أو بحسب القرآن الكريم: “في كل واد ٍ يهيمون”.. فبواسطة الخيال الإقتحامي يملك الروح البشري أن يولج في الوجود الحي ما يحتاج إليه من نكهة ومعني قادرين علي مكافحة اللامعقول ولو نسبيا.
هكذا تختلف الشعرية مثلا ً مع علم النفس الحديث؛ فبينما يزعم ذلك العلم بأن الخيال تعويض؛ بل أن الفنون كلها تعويضات عن رغبات مكبوتة لم تنل حقها في الإشباع؛ فإن الشعرية ترى الأخيلة والفنون برمتها تكميل لما ينقص الوجود وتجميل له؛ وهذا يعني أن الشاعر والفنان عموماً يملك أن يشارك في عملية الخلق عبر الفعل والخيال الإقتحامي البكر “والله أحسن الخالقين”؛ وهذا ما يتفق عليه الصوفيون أيضا ً..
ولعل في مقدورنا أن نعرف الشعرية علي أنها الانفلات من سجون المادة؛ ثم الفرار صوب الكائن الذي تصير اللغة شعرا ً حين تقاربه أو تدانيه؛ ألا وهو الشاعر.
مراجع
الابداع الفني وتذوق الفنون الجميلة – د.على عبد المعطي محمد 1995م
صلاح عبد الصبور – مأساة الحلاج