وليد الزهيري
اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر
ـ نهضت واقفة وسط الكوفي شوب.
ـ أمسكت بحقيبة يدها، وتركته جالسًا.
ـ وفنجان قهوة معلق على فمه ينظر نحوها بذهول.
ـ مشت مغادرة:
ـ (كريشندو ) رضوى: لأ .. لأ .. لأ
ـ قطع Cut ـ
بهذا الأداء الصوتي التصاعدي لـبطلة سيناريو فيلمه الجديد (رضوى)، أنهى كتابة مشهدها مع حبيبها المتخاذل، عاد برأسه للخلف يحملق في السقف متسائلًا:
ـ ماذا بعد؟
أوقد سيجارة من سيجارته الموشكة على الانتهاء، نظر للمنتهية وهو يطفئها بامتنان بعدما شاركته لحظة ميلاد رد فعل (رضوى)، سحب نفسًا عميقًا من الجديدة، وأمسكها بأطراف أصابعه ناظرًا إليها متسائلًا:
ـ هتضيفي إيه يا حلوة؟
نظر للسقف مجددًا ينفث الدخان، يتبعه باحثًا فيه وفي سراديب عقله الناضب عن حل درامي يعقب فعلة رضوى.. سقطت شرارة على (تي شيرته) الفيسفوري وأخرى على (شورته) الأسود، حكم على سيجارته بالإعدام كاتمًا أنفاسها بحنق.
نهض من مكانه إلى أقصى حجرته، واضعًا أسطوانة قديمة لمطربته المفضلة (إديث بياف ) في جرامافون اشتراه من مزاد، تجَّول مستمتعًا بأدائها وبالطقطقات الصادرة عن الإسطوانة المصاحبة لصوتها المنبعث من النصف الأول من القرن العشرين، استشرت في جسده رعشة باردة، مستذكرًا طقطقة الأخشاب المحترقة في نيران مدفأته، كتلك الصادرة عن أسطوانة بياف مخلفة من حريقها صوتًا يذوب في وجدانه.
غادر حجرته مستلقيًا على مقعد وثير بأحد أركان بهو بيته الفسيح الخالي من الأحياء دونه وبعض نباتات الظل، لمح أسفل مقعد بالزاوية المقابلة شراب (فيليه) أسود لا يذكر مِن صاحبته سوى ضحكاتها الرقيعة.
جذب بأطراف قدمه (الريموت كنترول) حيث تركه عشية أمس على الأرض، أخذ جولة على القنوات الفضائية، توقف أمام فيلمه الأخير المعروض على إحدى الفضائيات، نظر يمينًا إلى حائط بطولاته مشاهدًا جوائزه في الإخراج التي نالها عن فيلمه، متأملًا تقطيعاته بين المشاهد.
سخر من جنونه مستذكرًا تأثير مهنته على واقعه، متخيلًا نفسه يحيا داخل فيلم، وهو (يُمَنْتِج) شريط حياته بتقطيعات كتلك التي يراها على الشاشة.. استقام في وقفته تاركًا فيلمه الناجح بجوار (تي شريته) نازعًا عنه ملابسه وأفكاره المتعثرة قبل الولوج إلى الحمام، دافعًا الباب خلفه، مرددًا بداخله:
ـ ماذا بعدما وهبتْ رضوى قبلة الحياة لكلمة “لأ” بأدائها التعبيري، لا بد من حل مرئي دون الاستعانة بأي جملة حوارية تعيق استقرار المشهد في وجدان المشاهد.
مزج المياه الدافئة بالباردة، وهو يهز رأسه مؤكدًا رجاحة فكرته، وقف أسفل زخات المياه المنسابة على جسده المشدود الفتي، وضع قليلًا من (الشامبو) على رأسه، مزجه بشعره برفق مغمضًا عينيه، والمياه تنساب على وجهه.
رأى نفسه حينها على شاشة حياته الفضية، يأخذ حمامه وهو (يمتزج Desolve) مع مشهد بطلته رضوى، وهي تقف في المصعد، ويشطرها الضوء نصفين، تهبط إلى موقف السيارات، ثم تخرج بسيارتها من أسفل نفق مسرعة، تصحبها موسيقى تصويرية لآلات نحاسية تتصارع فيما بينها، ينحسر عن وجهها ظلام النفق بعد صعودها، ممسكة بفرامل اليد بقوة، وتستدير في الاتجاه المعاكس نحو أحد الأحياء الشعبية.
ربط حزام (البورنس) مجففًا رأسه، مبتسمًا لنفسه في مرآة الحمام الضبابية عائدًا إلى واقعه، انكفأ على سيناريو فيلمه مسترسلًا حتى كلمة النهاية، مدد جسده المنهك على سريره يحملق في السقف، متسائلًا:
ـ لماذا لا تأتيني الحلول كلما تعثرت في مشهد إلا في الحمام؟ هل لأنني أختلي فيه بنفسي.. أم لأنه مكان تسكنه الشياطين؟
إظلام تدريجي Feed in black))