اللوحة: الفنان البحريني راشد بن خليفة آل خليفة
قل لي من أنت، أقل لك نوع التكنولوجيا التي تستحقها، فهناك علاقة وثيقة بين طبيعة المجتمع، وطبيعة التكنولوجيا التي يمكن أن ينتجها، أو التكنولوجيا التي يمكن أن يستهلكها، ولذلك فإنه ليس لواحد من الأثرياء أو أصحاب السلطة مثلاً أن يعلن نويت بدءًا من الغد، أن أحول نفسي، أو أسرتي أو مجتمعي إلى ناس متقدمين تكنولوجيـًا.
ذلك أن تلك النيات الطيبة، تعاندها مشكلات ليست على هذه الدرجة من الطيبة، من أهمها أننا حين نتحدث عن التكنولوجيا ولا سيما تكنولوجيا المعلومات التي تجئ “الإنترنت” واحدة من أبرز مفرداتها، وحين نتحدث عن المجتمع في واقعه ونظام علاقاته مع التكنولوجيا – حين نتحدث عن هذين، فإنما نتحدث عن علاقة بين أشياء متميعة، أو على الأقل لا تزال رجراجة لم تعرف الاستقرار فضلاً عن التحديد.. ممكن أن نوضح الأمر أكثر.
على الرغم من الإنجازات الباهرة التي حققتها التكنولوجيا في شتى مظاهر الحياة، فإنها لم تزل في بدايتها الأولى ولا سيما إذا نظرنا إلى معدلات نموها في المستقبل، فإذا كان الحديث عن تكنولوجيا المعلومات بالتحديد، وجدنا لها برغم حداثتها، تأثيرًا في الحياة أشد عمقـًا، فإذا انتقلنا إلى المجتمع – ولا نعني ناسـًا بأعينهم – وجدنا الأمر أشد رجراجية – إن صح التعبير، فالمجتمع الإنساني في شتى شكوله ومستوياته، مضروب الآن، ولفترات يصعب تحديدها، بمتغيرات هائلة في اقتصادياته وسياساته وثقافته وبيئته، ثم في علومه وفلسفاته وأخلاقه جميعـًا، خصوصـًا إذا استحضرنا أجواء العولمة الاقتصادية والكونية الثقافية وغيرها من العوامل التي راحت تعيد رسم خرائط العالم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه لا يمكن فصل الشق المعلوماتي عن بقية العناصر المجتمعية، وأنه لا يمكن أيضـًا، وقف هذا الاندماج المتسارع بين تكنولوجيا المعلومات وغيرها من أشكال التكنولوجيات المتقدمة، أوشك أن أقول، المتفاقمة، مثل التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الفضاء. إذا استحضرنا الصورة البانورامية لهذه التركيبة التي تنضفر فيها بسرعة عجيبة مكونات المجتمعات ومكونات التكنولوجيات، فإن الحديث عن تحديد علاقة معلوماتية اجتماعية، يبدو أمرًا مستعصيًا على الوصف العلمي الدقيق.
ابنك العزيز، طلب منك أن يملك سيارة، أو أن يشترك في شبكة الإنترنت، أو أن تعطيه هاتـفـًا نقالاً ذكيـًا، إلى غير هذه الأشكال من التكنولوجيا المستحدثة، فهل تملك أنت صورة واضحة لتأثير هذه الأشياء في عزيزك، أو فيمن حوله وحولك؟ أم أنك جاريت الناس أو حملتهم على مجاراتك، دون تأمل صحيح للعلاقة بين التكنولوجيا والناس؟
المشكل فعلاً يبدأ من انبهار المستهلكين ولهاثهم لامتلاك هذه الأشياء دون نظر كاف إلى ما وراءها، والأشد إشكالاً هو عند الفنيين والخبراء الذين يبدعون التكنولوجيا دون توقف عند علاقتها بالمجتمع، فهم يركزون لأسباب مختلفة منها تخصصهم، على التفاصيل الفنية لأي منتج جديد، حتى يحقق الإبهار والرواج، وعلى الجانب المقابل يقف العلماء والاجتماعيون ورجال الدين والفلاسفة وعلماء النفس يفرّكون أعينهم في وضع لا يحسدون عليه، إذ الخطوط غائمة متداخلة، بل مهتزة، بما لا يسمح بوضع معايير يمكن تحكيمها، وهذا الوضع يخلي الساحة لكل المتحمسين من دعاة التكنولوجيا ليندفعوا في الحكم على كل جديد منها، وها هم أولئك يقسمون الآن بكل مغلظات الإيمان، أن تكنولوجيا المعلومات، هي سيدة دمثة شديدة المودة مع الإنسان والبيئة، بل هي فوق ذلك قادرة على إزالة آثار العدوان التي خلفتها الثورة الصناعية بدخانها وإشعاعاتها ومعداتها الثقيلة، ومن أسف، فإنهم في أمواج حماسهم، يعرضون قصدًا أو بغير قصد، عن حقيقة مهمة يعرفها الناس، وهي أن الآثار الجانبية للتكنولوجيا نفسها، تظهر متأخرة، بل تتأخر حتى يفوت الأوان، وهل كان أحد يمكن أن يتنبأ عند ظهور أول سيارة، بأن ينتهي أمر الشوارع إلى مثل ما انتهى إليه الآن؟
ومع ذلك فإن التكنولوجيا قادمة بموجها العاصف، مهما حذرت دراسات جديدة، من ارتفاع معدلات التلوث في “وادي السليكون” الذي يعد واحدًا من مراكز تكنولوجيا المعلومات في العالم.
وليس من شك أن تكنولوجيا المعلومات، سوف تصبح، إذا لم تكن قد أصبحت فعلاً، الحبل السري الذي يمد الجسد المجتمعي بعناصر الحياة، فإذا كان التصنيع قد حول المجتمع من كيان يحتوي الاقتصاد، إلى اقتصاد يحتوي المجتمع، فإن تكنولوجيا المعلومات، سوف تحيل الاقتصاد من كيان يستخدم المعلومات، إلى كيان جوهره المعلومات، إذ باتت هذه المعلومات قوة اقتصادية ضاربة، بل وعسكرية وسياسية وثقافية أيضًا، وفوق ذلك فإن تكنولوجيا المعلومات ولا سيما عندنا نحن المجتمعات العربية تصبح حاجة لا يمكن العدول عنها، إذ المعلومات كما يقول الدكتور “نبيل علي”، هي “الوسيلة الفعالة لتهذيب الفوضى، وإكساب المجتمعات العربية عادة النظر إلى الأمام حتى لا يدهمنا المستقبل بصدماته ومفاجآته”، فبالمعلومات يمكن تشخيص التباين الزاعق بين ظاهر العالم العربي، وباطنه، بين حقيقة أنفسنا وما نريده نحن، وبين ما يريد البعض لنا أن نريده، بالمعلومات – عزيزي القارئ – نرى صورتنا الحقيقية ونعالج ما بها من قصور أو من مفاهيم خاطئة، وبالمعلومات نستطيع ضبط المسافة بين واقعنا وتراثنا وأحلامنا للمستقبل، وبالمعلومات نسبح في هذا العالم المتلاطم بالمعرفة، لا لننجو فقط، بل لنفوز أيضـًا.
لكن كيف لنا – عزيزي القارئ – أن نعيد جذوة الحماسة، إلى وجدان الإنسان العربي بوصفه الأداة الأساسية لعملية التنمية، ثم بوصفه هدفها بلا جدال؟ إن “تكنولوجيا المعلومات” تفترض إنسانـًا يتلقاها، ويعايشها، ويعيش بها، ويقدم للأجيال ثمارها ليعيدوا غرسها للقادمين من ورائهم.
للإجابة، علينا أن نقرر الآن، أنه إذا كانت جميع مشاكلنا نحن العرب، تبحث عن حلول عاجلة، فإن الجواب على هذا السؤال السابق، هو عاجل العاجل.. كيف؟
لا يكون ذلك إلا بالاستجابة لهذه الرغبة الفطرية التي يحلم بها الإنسان العربي البسيط، من بلورة رؤية عربية مستقلة لمشروع حضاري متكامل، يعيد الحياة إلى مؤسساتنا العلمية والثقافية، ولا يكون أيضـًا إلا بانصباب القيادات التشريعية والتنفيذية والدينية والإعلامية والسياسية في اتجاه التنمية المعلوماتية للوطن العربي، والوعي الكامل بخطورة التقاعس عن هذه التنمية في وقت تمضي فيه المجتمعات إلى المعلوماتية كالريح لا تعرف الانتظار.
لكن السؤال ما يزال معلقـًا، إذ كيف نجعل تلك القيادات تنصب في هذا الاتجاه؟
لا يكون ذلك إلا بأن نبرز بقوة، أهمية “الثقافة” في “مجتمع المعلومات” فالمعرفة الثقافية أصبحت منتجـًا له سطوة تزحم الصناعة، وحسبنا أن نتذكر أن “البرمجيات” توشك أن تبلع مساحة عتاد الكمبيوتر، كما أن أقل مراجعة لاتفاقية التجارة الدولية “الجات” تبرز غضب المؤسسات السياسية والثقافية في أوربا من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على صناعة الثقافة في العالم، ولم ننس بعد، وقفة فرنسا بجسارة، لحماية حدودها الثقافية من الغزو الأمريكي، ولم ننس بعد أيضـًا، تلك الضجة التي لا تريد أن تهدأ، حول حماية “الملكية الفردية” وما يضعون في هذا المجال من قواعد.
إن المغزى الكبير الذي يبرز هنا، هو الارتفاع غير المعتاد لأسهم الثقافة، بوصفها أبرز عناصر الإنتاج في السنين القادمة، وأن على المثقف العربي أن يثق بقوة في نفسه، وهو يكسر بقوة، حاجز الرهبة الفنية عند ولوج تكنولوجيا المعلومات، وألا يكون حديثـًا مكررًا منبهرًا يتداخل فيه الوهم بظلال باهتة من الحقيقة، يخاف من التحديد، ويعجز عن التأثير، فالقدر المتيقن من المشاهدة اليومية أن أبناءنا الصغار أجرأ وأقدر من آبائهم على مواجهة التكنولوجيا، وما تزال تكشف لهم كل يوم بالمحاولة والخطأ فضلاً عن التدريب المنظم، ما يحسدهم عليه الذين يعانون “رهاب التكنولوجيا”، غير أننا لا يمكن أن ننتظر حتى تظهر أجيال تحل مشكلاتنا العاجلة، فالعالم اليوم مضروب برياح قوية هي تكنولوجيا المعلومات، فهل نظل نحن العرب، نحن المثقفين، نبحث عن ريح طبعها الانتظار؟؟
إن الجمعيات الفكرية لابد أن تنهض بدورها، بل تعظمه، حتى تتيح للقادة الثقافيين أن يقدموا للناس ما يساعدهم على سلوك السبل التي تبني ثقافتهم ومهاراتهم في التعامل مع تكنولوجيا المعلومات بعيدًا عن القنوات الرسمية التي تحتكرها السلطة، حتى لا يطول بنا الانتظار.. ذلك أمر مرده إلى توفيق الله ثم إلى همم من المخلصين من أبناء هذه الأمة الذين لا تزيدهم مشقة الطريق إلا إصرارًا على الهدف