الجالون

الجالون

سعود سعد آل سمرة 

اللوحة: الفنان السعودي عبد الله حماس

جدي يرحمه الله، كان محبًّا لإيقاد النار، قبل أن يؤذن للفجر أذانًا طويلًا، يصدع به بشدة، يتردد صداه بعيدًا بعيدًا، بين أصاء كبيرة، محيطة بالوادي الذي وعيت فيه أول مرة، أتجول في احدى تليعاته، بين شجيرات الساف، مع أختِي الأصغر مني بقليل، ولم يكن لي من الأخوة سواها، تبدو بنفس قامتي وحجم بنيتي، تعلو سحنتينا سمرة صحراوية تلون بشرة جافة، نتشارك حينها لعبة بدائية، نلهو بها معًا وحيدين، شغفنا هذا يدفعنا إلى التسلل في «الغبشة»(١) خارج البيت، أحيانًا تحت غمامٍ يغطي كل شيء، حتى ظهر «خدرنا»(٢) الأسود البارك كجمل «أملح»(٣)، في حضن جبل «مهيّض»(٤) العتيد. غاشية الصباح على رأي أبي، تغشى العالي والسهل، لم نعد نرى الجبل ولا التلال، واكتست فجوات الشعاب بضباب أكثر بياضًا، بينما ينزل رذاذ خفيف، يداعب وجنتينا بلطف، نسميه الصواب، وبصدق نحن نكاد نتجمد، ولم يمنعنا البرد القارس، عن انهماكنا في متعة لعبتنا الصغيرة، لا أظن أن حبًا يعدل حبنا لذلك الشيء حينئذٍ، حتى حب جدي لنياقه.. اللعبة الولع، ليست سوى نصف جالون معدني مشقوق، معدل على شكل وانيت، ربط في مقدمته حبل يقاد به، مزوّد بأربعة دواليب قطعت من «شرثة»(٥) خرجت من الخدمة، واستحقت أن تصبح مادة لتلك الصناعة التحويلية. لا أتذكر الآن صاحب المهارة، مخترع اللهاية الأسطورية، تعبت من محاولاتي للتذكر دون جدوى، وما نسيت تلك السعادة الغامرة لنا معًا، نحن الصغيرين في تلك الأصبوحة الشتوية، التي اختفت شمسها، ونحن نسير نحو تلعة «الساف»(٦) نجلب «الوشع»(٧) لجدي الذي لم يطلبه منا، نردم الأغصان اليابسة في حوض السيارة الأسطورة، لنقوم بسحبها محملةً، نحو الخدر. أقبلنا نرتعش، نرى الجد بجوار موقده، على بعد بضع عشرات من الخطوات، كانت بالنسبة لجسدينا الصغيرين بمثابة أميال. جدي مشغول بقهوته على جمر ناره، يعدها بنفسه، كما عودنا وبجوار الدلة إبريق لا يستغني عنه، يسخن فيه حليب ناقة يحبها، وتبادله نفس الحب، تأتي إليه طائعة بعد صلاة الفجر، وهي التي فقدت ابنها أو حرمت منه، «مسوح»(٨) تدر اللبن بكرم، عند المسح على ضرعها، يكافئها بلقمة ضخمة مكورة من العجين والتمر، لتسرح بعد هذا الدلال، مع قطيعه الكثير من الإبل.. حين وصلنا نرتعش، هب إلينا مذعورًا، ليأخذنا بين جناحيه كطائر يحنو على فراخه، يحتوينا بين جناحي فروته، يقربنا من شعلة النار لندفأ أكثر ونحن بجوار قلبه، يبتهل: (يالله الخيره، يالله إني في عناك، وش مسرحكم في البرد يا عيالي). 


مفردات محلية دارجة في اللهجة السعودية:

(١) الغبشة: الصباح الباكر  

(٢) خدر: بيت شعر  

(٣) أملح: أسود  

(٤) مهيض: اسم جبل  

(٥) شرثة: نعل  

(٦) الساف: عشبة الاذخر  

(٧) الوشع: مشعل للنار

(٨) مسوح: تدر الحليب في غياب وليدها. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.