بثينة الدسوقي
اللوحة: الفنان المصري شوقي زغلول
كتبت فرجينيا وولف قصتها القصيرة “فيليس وروزاموند” في أوائل القرن العشرين، تلك القصة التي تدور أحداثها في إنجلترا عن خمس فتيات من عائلة موسرة قريبة من الطبقة الوسطى، سلكت منهن اثنتان حياة العلم والترقي وكانتا لمّاحتين بما يكفي لتحصلا على حياة مرموقة، وتتزوجا من رجلين عظيمين وتعملان، وتسلكان في الحياة مسلك الرجال، كما قالت.
واثنتان هما فيليس ورزاموند بطلتي القصة، اللتان تختلفان كل الإختلاف عن الأختين الأخريين، حيث كانتا محدودتي الطموح والذكاء، وكانتا بيتيتين،بارعتان في أمور المنزل، وأمور الحديث، والابتسام المتكلّف، والضحك الناعم، والعناية بالأزهار، باختصار كانتا مجهزتان من قبل والدتهما الجافة الطبع لمجابهة عالم الصالونات الذي كان يفرض عليهما استعراض ملكاتهما السابق ذكرها للحصول على العريس المناسب من بين الكثيرين الذين يحومون في الساحة حولهما كفتاتين من وسط راق.
وأما الخامسة، فكل ما ذكر عنها في القصة أنها تذبذبت بين النموذجين للشقيقات الأربع، وتبدو لي الآن- في أوائل القرن الواحد والعشرين- أنها النموذج الجدير بالكتابة، تمنيت حقاً لو أن الكاتبة قد اهتمت بتفاصيل حياتها بصورة أكثر إيضاحاً.
القصة سميت باسم المعنيتين بالحكي “فيليس وروزاموند” حيث أن حياتهما على تلك الشاكلة هي مثار تعجب، فكلتيهما قد سلكت ذلك المسلك الغريب، حيث عرضت نفسها في المجتمع كتحفة مصنوعة متصنّعة، وكانت حواراتهما الليلية قبل النوم تكشف كل هذا الزيف الذي يحاصر أفعالهما ، تكشف عدم رضائهما التام عن هذه الحياة المتكلفة، وعن وضعية الانتظار التي يتخذونها لحين الاستقلال كل ببيت مستقل، ولكن كل منهما كانت تنبه الأخرى برفق بأن فرصهما في الحياة محدودة بالمقارنة بغيرهن، وأنهما وإن كانت إحداهن أذكى من الاخرى قليلاً فإن غاية ما يمكن أن يفعلانه هو المزيد من التظاهر والمزيد من التصنع واستخدام تلك العناوين الكبرى المكتوبة في الصحف في أحاديثهن لإضفاء صفة العلم والتثقف أمام الآخرين
ولعل زيارتهما لعائلة أخرى من غير دائرة المقربين المعتادة قد جعلتهما في حال آخر، تلك العائلة التي ترسم فيها الابنة وتكتب في الصحف، وتسخر من أحدهم وهي تنظر في عينيه، وتتندر على أمور من المستحيل عليهما الاقتراب منها كالسؤال في صميم طقوس الدين، أو انتقاد رأي لكاتب كبير، أو لوحة لرسام شهير، لقد بهرتهما الفتاة بحريتها وإطلاق لسانها وثقافتها الأصيلة التي تمكنها من الجدال والانتقاد والبوح برأي بل والسخرية.
لقد انقلبتا إلى مدافعتين عن طبقتهما المتجمدة عندما بدأت الابنة الفضولية بالسؤال عن تفاصيل حياتهما بعد ان لاحظت أنهما تبدوان في غير عصرهما المناسب، ورغم تشبثهما بالدفاع فقد اكتشفتا خواء تلك الحياة واكتشفتا أن الابنة التي كانتا ينعتانها بالجنون تفتح لعقليهما باباً على عالم رحب موجود بالفعل وغير بعيد لكنهما لا يريانه على الإطلاق.
هذه كانت قصة فيليس وروزاموند، ولكن ماذا عن الأخت الخامسة والتي كانت على قدر متساو من الذكاء والجمال؟
ماذا عنها بالله عليك يا فيرجينيا؟
تلك التي طمعت في أن تكون كل شيء وتفعل كل شيء؟
ألم يخطر ببالك يا فرجينيا أن تذكريها في قصتك؟
ألم تشقى بكونها كجوكر الكوتشينة الذي يلعب بالثلاث كرات ويحل محل الآخرين في حماس ودأب ويفعل كل شيء؟
الأخت الخامسة تقول يا فرجينيا، تتحدث هنا:
لأني امرأة
عركت الحياة
سلكت السبيل
الذي بدا حينها في جمال
وكنت مثالاً
عشت مثالاً ومت مثالاً
عشت أقول
إني سعيدة بنفسي وذاتي
وإني فريدة
لكن، بين نفسي تلك وذاتي
هناك في ظلمتي الحالكة
أؤكد أن الأمر عسير
ويجب عليّ التشبث حتماً بالمعطيات
يجب عليَ السير بخفة
فوق السطور
ويجب احتجاب عذابي تماماً
ويجب علي تنحيف قلمي
وتجفيف قلمي
وتهذيب قلمي
لئَّلا يثور
يجب الكتابة برقّة ولطف
تماماً، كما تكتب الأخريات
عن الموت عشقاً
عن كل آهة ودمعة ألم
عن الذكريات
وعن كل آية تمجِّد حبيباً
وتروي وتحكي في العشق دوماً
عذاباً شديداً
يجب الدفع بأني امرأة
كل الدلائل بأني امرأة
تعلو وتعلو على الاخريات
تحيا لتسعد بنجاحات
بكف، تملك كل العوالم
وبأخرى، تمسك حتماً بالمعطيات
تؤكد كل الشقاء ببعد الحبيب
وعشق الحبيب
كلام كثير
يجب الإشارة إليه بحذق
كلام، عن اللهفة الراجفة
وليل طويل، ووحدة خائفة
عن الاكتمال
بذاك الحبيب
وعن السعادة الوارفة
تلك السعادة
وأقسم همساً بيني وبيني- أنها زائفة
***
إني غير اللواتي
ظللن عهودا مُتنعّمَات
إني أشقى مثل حبيبي
سأصدّق أني أشقى “مثل” حبيبي
شقاءاً طويلاً يؤرق عمري
ويلهب ظهري
يُجعِّد مني الأماني
فتضمر
لأني امرأة، قديمة عهد بالمُشقيات
حديثة عهد بالمعجزات
سأكتب ما يمليه عليَ الضمير
سأكتب إني فقدت إلى النور كل سبيل
وأين السبيل؟
لأني امرأة
صار لزاماً سهر الليل أهدهد فيه
وصحو من الفجر
صلاة طويلة، دعاء طويل
أعد له شطائر الجبن
وكوب الحليب
واضبط رنين الجرس الغريب
ليصحو على زقزقات الطيور
وأذهب من فوري إلى معملي
إلى مشغلي
إلى معقلي
لساحة عراك بعيدة بعيدة
أمارس فيها طقوس الرجال
وأعهد إلى روحي بالجدال
مثلك أنا يا حبيبي تماماً
صنيعة مجتمع الاحتيال
***
وأعود، لأرجف
لأعد طبقاً من ثريد
وشواء لحم، ومرق غزير
يحب ثريدي ولحمي ومرقي
يقتات مني
وينعس قليلاً
فأذهب إلى قارورة عطر جديد
وأقضي الدقائق في انهماك
أظلل عيني لتبدو أجمل
بل للحق
لتبدو بدون انعكاس الأرق
بدون سواد يحيط بها كالضباب
أنعّم جسدي
أقلم يومي وأمسي بقوّة
وأقضي الوقت في الاختيار
ثوب يحيل الجسد المتعب
لجذوةِ نار
أو آخر يؤكد أني كأنثى لنمر
أو قرص لشمس
أو قصير وفاضح، كالإعتذار
طقوس
طقوس أمارسها باقتدار
***
ماذا إذن؟
يصحو ليلثم مني الحياة
ويملأ عينيه من ملمحي
يؤنب أيامي الفائتات
لأني نحلت قليلاً، أو سمنت قليلاً
يؤكد أنه يريد “امرأته” كالغانيات
ويسأل عن رأيي في معضلات
ويحكي إن أراد عن مشكلات
ويسهب حكياً
وهو يؤكد في كل كلمة
كيف التعب،
يجوس بجسده كالقاطرات
وكالساحرات
أمد يدي لأضمد جسده
وأضيف إلى سجل حياتي
عملاً جديداً
ولا ينتهي بهذا أبداً يومي السعيد
لا ينتهي بغير انتهائك بين ذراعيّ
لتؤكد أنك أنت الرجل
أنت العطاء
وأني- مهما فعلت فكلي هباء
وأنك أنت المنى والرجاء
يومي السعيد، لا ينتهي
فروحي التي ترقبني من بعيد
تؤكد أن النوم انتهاء
وأن الصبح القبيح سيدنو قريباً
وان عليّ الكتابة دوماً
كالأخريات
يجب الدفع بأني امرأة
كل الدلائل بأني امرأة
تعلو وتعلو على الاخريات
تحيا تسعد بنجاحات
بكف، تملك كل العوالم
وبأخرى
تلعب وتلهو بالمعطيات!