اللوحة: الفنان الهولندي بالتاسار فاندر آست
رشقه بائع الزهور الملاصق لمنزله بنظرة غريبة عندما بادره بابتسامة ثم طلب منه باقة ورود، لم يفعلها طيلة عشرين عاما كان يمر عليه دون أن يلقي السلام.
يعمل في وظيفة مرموقة بشركة دولية ويقطن في منزل فاخر، كل من حوله يتجنب مواجهته في الحديث لتعبيرات وجهه الصارمة وكلماته المقتضبة، إصراره على الانعزال حتى في وقت الراحة وتناول الغداء دفع زميلته في المكتب والتي كان يقتلها الفضول لسؤاله: لماذا دوما أنت صامت، ولماذا لا تحدثنا عن أسرتك؟، تجاهله السؤال والنظرة الحادة التي ارتجف بسببها قلب هذه الفتاة غلفت المكان بحالة من السكون.
عاد إلى منزله في هذا اليوم يستشيط غضبا كأن أسئلة زميلته نكأت جراحا لم تندمل، دَلَفَ إلى صومعته المتناثر في أرجائها عشرات الكتب، فتح الدرج الأخير بمكتبه وأخرج صورة لفتاة يظهر من ملامحها أنها في منتصف العشرينات، تساقطت دموعه وهو يتأملها، طبع قبلة على الصورة ثم أعادها إلى مكانها.
أبحر في نهر ذكرياته المؤلمة وتوقف عند اللحظة الفارقة التي تحدى فيها أسرته ورفض ضغوط أمه الثرية بالزواج من ابنة خالته، حينها كان أسيرا لحب فتاة فقيرة سكنت حنايا قلبه بأدبها الجم وطموحها الكبير بأن تصبح طبيبة مشهورة، كان يرى فيها شبيهة الروح التي طالما بحث عنها ولم يجدها بين فتيات الطبقة الراقية التي كان ينتمي لها، لكن أحلامه العريضة انتحرت على صدمة وفاة الفتاة التي كان يعشقها في حادث سير مؤلم وهي في طريقها لإعداد ترتيبات العرس.
سبح في ذاكرة العمر الموشمة بملامح الحبيبة التي تكفنت بفستان الفرح، استلقى على الأريكة، وفجأة استفاق مفزوعا من غفوته على رنين هاتفه، تردد في الرد على زميله “الثرثار” فقد كان مكبلا بحالة الشجن التي نادرا ما يتخلص من قيودها، لكنه رضخ وأجاب على الاتصال بعد تكراره عدة مرات، أخبره بأن سيدة من أحد فروع الشركة سوف تتسلم منصب المدير من الغد، غضب عندما علم أنها سيدة ثم أغلق هاتفه واستسلم للنوم.
كعادته استيقظ باكرا وذهب إلى العمل، وجلس في المقعد الأخير على طاولة الاجتماع، على الرغم من أن بحوزته ملفات مهمة كانت تقتضي جلوسه في المقعد المجاورة للمديرة الجديدة، التي تعجبت من استقباله الفاتر وصمته وردوده المبتورة على استفسارتها بشأن عدد من المشروعات التي تنفذها الشركة.
انتهى الاجتماع وكان أول المغادرين، وجددت المديرة طلبها بعقد اجتماع مصغر مع قيادات الشركة لرغبتها في التوصل لحلول للمشاكل التي تعرقل إنجاز المشروعات، لليوم التالي يلتقي بها فوجد جبل الجليد الذي تتحصن مشاعره به منذ أعوام قد بدأ في الذوبان، دارت بينهما أحاديث طويلة ثم تكررت الاجتماعات واللقاءات، وبعد أن نال ثقتها اختارته في مهمة عمل بالخارج، كانت تحركاتهما معا واقتربا في مدة وجيزة.
وللمرة الأولى منذ رحيل الحبيبة تزحزحت الصخرة الجاثمة على قلبه ليتنفس أملا، لم يصدق أنه بدأ ينجذب إلى هذه السيدة، كل من التقى بهن في طريق عمره المَزروع بأشواك الحزن أوصد في وجوههن الأبواب، ورفض الزواج حتى العقد الخامس من عمره.
أمام السيدة الجميلة الهادئة القوية الشخصية التي تفرض وقارها على كل من حولها، نزل أخيرا من برجه العاجي وتخلي عن صمته، وأيقن أنها حركت إحساسه وأنه آن الآون لتتوقف دمائه المسفوكة على قارعة الأيام، لكن كيف سيصارحها، وهل تبادله نفس المشاعر؟
وقبل هذه الخطوة، عاش الليلة الأخيرة بين جدران الماضي الحزين مع صورة حبيبته، وأطال النظر إليها كأنه يطلب منها الغفران على ما قد يتوهمه ذنبا في حقها.
ارتعد قلبه خشية صدمة جديدة تسقطه إلى حضيض الوجع، لكنه عزم على البوح وابتاع هدية ثمينة وباقة ورود، ظل ينتظر بزوغ النهار ليذهب إليها سريعا.
بلهفة عاشق ولهان، أضناه الألم وانهكته الأحزان، هرول، متمتما: هي من حلمت بها وانتظرتها لتعيد إلى قلبي الحنين وتمنحه الدفء الذي افتقده سنين.
وبينما كان يلهث للحاق بها، علم أنها في اليوم ذاته في طريقها إلى مسقط رأسها، بنفس اللهفة أطلق ساقيه للريح، متوسلا للأيام أن تكف عن الآلام، بصعوبة تعلقت قدماه بالعربة الأخيرة في القطار، وبفرحة العمر المحبوسة والضحكة المدفونة اندفع نحوها، رآها تبكي بحرقة وترتدي ثوب الحداد، وبيديها صورة شبه ممزقة تقبلها.
قالت: في طريقي لوضع الورود على قبر حبيبي الذي رحل أمس بعد معاناة أعوام من المرض.
لملم بقايا أحزانه، انتظر توقف القطار وفي أول محطة، غادر منكس الرأس، تاركا في مقعده باقة الورود.
أكثر من رائعة
كنت اول ما قرأت لك
كانت مجموعة قصصية بعنوان ك
كيس أسود
كانت جميلة وعرفتك من خلالها ولم أكن قد التقيتك
إعجابإعجاب