نورة عبيد
اللوحة: الفنانة الكردستانية زهراء رجب
إلى زهير بن أبي سلمى:
بدا لي أني لست مدركا ما مضى
ولا سابقًا شيئًا إذا كان جائيا
في شقّة من المبيت الجامعي العمران الأعلى دقّ الباب وقبل أن تفتح الباب خاطبها صوت عابر: “منار أُبَيْ تلتحق بمكتب الاستقبال هناك من ينتظرها”
استغربت ذلك فهي حديثة عهد بالمبيت ولم يشقّ طريقها أحد فالتحقت بمكتب الاستقبال دون تردّد هناك لم تر أحدا تعرفه تأمّلت الوجوه الفرادى فلم تفز بجواب فتوجّهت إلى الحارس تسأله عن أمرها فأجابها في ملل أنّ شابا طلب ملاقاتها
وقبل أن تهمّ بالعودة أشار إليه وهو ينتحي زاوية خارج فضاء الانتظار لقد كان يراقب ما يجرى، فالتقيا عند منتصف ما يفصلهما من أمتار، أخبرته قبل أن تسلّم، أنّها لا تعرفه ولا هو كذلك.
– لا بدّ أن تلتحقي بمنزلكم لقد ألّحوا عليّ أن أبلّغك هذا الطّلب لم يتسنّ لهم الاتصال كيفما كان.
– وكيف اتصّلوا بك إذن؟
– عبر الهاتف كلّمنّي قريبي من حارة الشّعراء وقال إنّك بهذا المبيت ابنة الجميل أُبَيْ وهو شخصيّا من ترّجاه أن يبلِغك الأمر!
– شكرا في أمان اللّه
– من أخبرك أنّني شكري؟
– شكرا
كان الوقت متأخّرا ولا يمكن أن تصل إلى المنزل فسيّارات الأجرة تجفّ وما في الحافلات العموميّة من أمل لم تستطع أن تصبر على المجهول اتجهت إلى أقرب مقرّ للاتصالات العموميّة وهاتفت منزل خالها خيط الوصل الوحيد بينها وبين الخبر
– ألو ألوألو “عالسّلامه “
– من معي؟
– أنا منار أنتم بخير الكلّ بخير
– أمّك عيشه الدّوام لله
سقطت السّماعة من يدها أمّي “عاشه”! لا تعرف كيف عادت إلى غرفتها، ولا حتّى استطاعت أن تعود فقد جلدها الموت في أمّها وها إنّه يأتي على جدّتها لأبيها
كانت تردّد حكاياتها في عجب وتميل إليها في مرح فتغبط فرحها الدّائم في استنكار لم تضجر ولم تنهر، بل كانت عجينا خاصّا جمعت بين الجمال والمال والنّسب والأبقى خفّة كائنة من عجب.
أتمنّى لو تقو منار على كتابة سيرتها فأنا الآن لا أسترجع التّفاصيل التي ترويها في إكبار أعلم فقط أنّها الكائن الوحيد الذي تناديه “أمّي فلانة ” فتجمع بين حليب أمّها المرحومة وحنان جدّتها المنقولة إلى مثواها الأخير.
حين فتحت باب الغرفة المشتركة، ترّجت شريكتها أن تختار صديقة غيرها تبيت عندها اللّيلة قهي على موعد مع زائر خاصّ .
لم يعجب جميلة ذلك فهمست لها “أستقبل الموت اللّيلة!” فبسملت جميلة وانسحبت انسحابا غير مفهوم إلى أبعد غرفة من غرفتها.
ضحكت منار في استهزاء وغلّقت الباب وأشعلت شمعة ثمّ شغّلت تسجيلا رائعا لمحمّد عبد الوهاب في “النّهر الخالد”
وقعت الواقعة فما حاجتي الآن للعزاء الكلّ هناك تلّقى العزاء ووحدي في الصّباح سأحترق؛ فلن أسلّم عليها ولا هي ردّت بأقلّ:
– وقتها ووقتك ووقتهم مؤقّت
– لم عجّلت بها كما عجّلت بسابقتها؟ الخاسرة هي أنا
– لكلّ أمّة أجل
– وقت، أجل هلّمّ جرّا؟
– أجل الموت هو وقت الموت هو الوقت الذي يعلم الله أنّه يموت الحيّ فيه لا محالة
– لا محالة نحلم ألاّ نعلم ولكنّك في كلّ مرّة يسبقك الأسى والأذى
– معلوم لا محالة! يا معشر الضّعفاء كرهتم الحقّ وآمنتم الفتنة!
– بدا لي أنّي لست مدركا ما مضى ** ولا سابقًا شيئًا إذا كان جائيا
– “إنّه لا يظلم مثقال ذرّة ويؤخرّكم إلى أجل مسمّى”
– “في حلقنا عظم وقد شجينا
تراجع المدى وأخبرتني أنّ شيئا ما منعها من مواصلة الجدل، ربّما حرارة الخبر والوجع أمهلاها على الضّجر.. عزّ دمعها آنذاك وأجبرتها “أمّها عاشه” على محاربة الملل فتزمّلت بما تقوى على ما بقي من اللّيل من الكلم .
كانت جدّتها تخاف المرض فجلّ صلاتها ابتهالات شفاء فيستدرجها محمّد الأخ الأكبر لتلاوة سورة “الكافرون” فلا تعرف كيف ينزلق اللّسان وتستبدل الكافرون “بالكسرونه”، ويغرق الجميع في ضحك يتعمّد الضّاحكون في الازدياد منه.
كانت تقول: “أمّي عاشه” لا ترى في نفسها مثيلا لها ولذلك ما إن بزغ الضّياء حتّى تفجّر حزنها سواقي وسال دمعها أمدا .
انتظرت موعد فتح باب المبيت لتغادره إلى الحدث المقيت وهي كذلك داهمها الحارس ببرقيّة” البقاء لله أمّك عائشة في ذمّة اللّه“
ربّما شكّ الجميل أبوها ألاّ يبّلغ شكري المقصود فاستعاذ ببرقيّة متأخّرة الوصول.