بثينة الدسوقي
اللوحة: الفنان السعودي طه الصبان
كان من الغريب أن تظل على حالها وكأن شيئاً لم يحدث وكأن سحابة الحنق التي غلَّفت صوته وهو يهزها بعنف بكلتا يديه لم تؤثر فيها ولم تحرك فيها ساكناً
إنه أحمق.. تعرف ذلك كما تعرف خطوط راحة يدها.. ولن تفعل أكثر من انتظار انتهاء فورة الغضب لتحاول لملمة بقايا كرامتها وتخرج من بيته بلا رجعة.. بيتهما.. عش الزوجية الذي ملأه بالشوك بخداعه وكذبه.. تخشى لو خرجت الآن أن يطاردها عنفه الذي أشعلت فتيله حتى ترك آلاماً مبرحة على ذراعيها..تنذر باستحالة لونها إلى الزرقة بعد قليل
ظلت جالسة ممسكة بآلامها.. تعض شفتيها لكي تقتل صوت الألم فتثير فرحه بألمها.. تعرف أنه الآن يتمنى ألمها.. رغم أنه منذ قليل كان يقبل كل ما فيها.. تذكرت كيف كان حال قطتها الرمادية الفراء عندما وضعتها في غرفتها ومعها ذلك القط البلدي المنفوش الشعر.. وأنفقت الوقت مع صديقتها ترقبان الهجوم والهجوم المضاد..لم تكن هناك قبلات.. ولهذا عندما تقدم للزواج بها طالبته بقبلات لا نهاية لها.. كانت وعوده كالمطر.. تهمي على وجهها قبلات.. وكانت تؤمل نفسها.. نحن لسنا هررة.. إنه يقبلني
واستجاب لها.. كانت قبلات لا نهاية لها فعلاً.. وكانت تلك القبلات وكأنها كل ما لديه.. كانت تموت.. وقد دأب على إماتتها كل يوم.. حتى باتت تنتظر اليوم الذي قد تبزغ فيه شمس حياة.. كانت تحرقها من الآخرين الأسئلة.. وتجد بنفسها صمتاً لا يضاهيه صمت.. تأكل كل حديث يفضى إلى سؤال.. حتى تهرب من سؤال الآخرين.. بينما سؤالها لنفسها يأبى الموت.. قابع تحت لسانها كقرص دواء مر
تراه يضحك.. ويعبث.. ويهين ما بقى منها لحظة أن يستشعر منها بدايات سؤال.. وكأنه يعتمد على برقع الحياء الذي تختفي خلفه قسمات الأنثى
خرجت من بيته فى ظلمة الليل.. هاربة.. تشعر أصابعه سياطاً تلهب جسدها فتدفعها إلى مزيد من فرار.. وتحصى سنوات مرّت وكأنها أعمار تركت بصماتها على روحها فامتلأت بالتجاعيد.
المسجّى
كان مسجى في الفراش، صامتاً، شفافاً، ضاماً أجنحته إلى جواره، وملقياً بسهمه في غير اعتناء، مغمض الـ، عينين، اقتربت منه في هلع ووضعت رأساً ملؤها الأنين على شيء ما، ربما كان موضع القلب منه، لم تلتقط أذناها صوت النبضات، أعادت المحاولة يحدوها الأمل، ولم يكن هناك مكان للأمل، إنه سكون الموتى
لم تظن يوماً أو تعتقد في إمكانية موته، موت كائنها الخيالي المفضّل، ذلك المسجَّى: كيوبيد
دارت حول الفراش ساهمة، وأضاءت مزيداً من الأنوار، ثم جلست إلى مرآتها تتزين كما لم تتزين من قبل، زادت من كحل عينيها حتى نال منهما الألم، أغمضت عينيها وتذكرت وسامته، نثرت عطراً يحبه على جيدها، قامت من جلستها وتحركت محدثة جلبة قاصدة إيقاظ ذلك المسجى أمامها، وحارت طويلاً حتى انتقت ثوباً يحدد تفاصيلها بدقة
جلست على طرف الفراش تترقب الصحوة طويلاً طويلاً، وأغمضت عينيها مرة أخرى تستعيد وسامته، كانت تعلم انه سيفاجئها بعودته، وتأمل في معجزة اعتذاره لها
هو لا يعتذر عادة لكنه يسمح لها بالإعتذار عن أخطائه التي لا يعترف بها، لكن لا بأس، لا بأس من الاعتذار، والانتظار
أعلن هاتفها عن وصول رسالة قصيرة، كانت تعلم أنها منه بكل تأكيد، ربما أنه سيسمح للمسجَّى أمامها بالحياة مرة أخرى، ربما سيعيد لقلبه النبضات
كان اسمه يعلو الشاشة، بينما يضم جسد الرسالة كلمتين فقط
ـ أنت طالق
بعد صمت طويل، وتأمل في الكلمتين، أحست بكحل عينيها ينسال على خديها، فقامت، وشدت الغطاء حتى غطَّى تماماً ذلك المسجّى أمامها على الفراش.
•البرقع: قطعة من قماش شبه شفّاف تغطي الوجه كله إلاّ العيون..يقال أن بداية ظهوره كان في قبيلة تدعى مطير وابتدعته فتاة لتهوّن من جمالها أمام خاطب لا ترغبه ولكنه انتشر بعد ذلك في بادية العرب.
*كيوبيد: عند الرومان هو ابن الإلهة فينوس الذي يعدونه رمزاً للحب وكانوا عادة ما يصورونه في صورة طفل شديد الجمال يحمل سهماً يصيب القلوب بالحب المفاجئ، أو بصورة أعمى دلالة على حالة المحب تجاه عيوب الحبيب.