هناء غمراوي
اللوحة: الفنان الفرنسي بيير رينوار
لا أعرف لماذا استيقظت من نومي وأنا أردد: “رحم الله خالي الحاج حسّان”.
من الزمن البعيد جداً، لاحت لي اليوم هذه الذكرى. من الطفولة المبكرة، من بلدتي البدّاوي، الممتدة بطول حوالي أربعة كيلومترات في مدخل مدينة طرابلس الشمالي.
كنت لم أتم بعد عامي الثامن، وكان الذهاب الى المدرسة مختلفاً. فلا باص للنقل، ولا سيارات خاصة للأهالي تحدث ضجة وازدحام على باب المدرسة، وتنقل إليها طالبي العلم من الصغار.
سيراً على الأقدام كنا نذهب كل صباح إلى المدرسة. كان بيتنا يعتبر بعيداً نسبياً عن المدرسة الابتدائية التي كنت أذهب إليها رفقة زميلات لي من بنات الجيران يكبرنني في السن. وكانت والدتي تغدق لهن العطايا كي لا يتخلين عن هذه المهمة؛ مهمة اصطحابي يومياً إلى المدرسة.
حدث أن تخلفت يوماً عن صحبتهن لسبب لا زلت أجهله. ولم أقبل أن أبقى في البيت وأصرّيت أن أذهب وحدي. فقد كنت حينها بخلاف باقي الأطفال، متعلقة بالمدرسة، شغوفة بكل ما يدخل رأسي الصغير عبرها من معارف، وعلوم متنوعة…
كان يوماً ماطراً حملت حقيبتي المدرسية، ولبست معطفي الواقي من المطر ذي القبعة الكبيرة الواسعة. وانطلقت من البيت مسرعة خوف الوصول متأخرة، وبعد قرع الجرس ترافقني نصائح أمي، وتحذيراتها لكيفية قطع الطريق الدولية، التي تفصلنا عن المدرسة القابعة في أحضان بساتين الليمون والبرتقال القريبة من الشاطئ.
حوالي خمس دقائق استغرقني الوقت لأصل الى الطريق العام. كان هذا الطريق هو الطريق الساحلي الوحيد الذي يربط طرابلس بعكار، وبالتالي هو الخط الساحليّ، الذي يربط لبنان براً بسوريا وباقي الدول العربية.. كانت السيارات تمر عليه بالاتجاهين دون أي فاصل وسط الطريق.
وقفت على جانب الطريق وبدأت أستعدّ للمهمة الشاقّة، متسلحة بنصائح أمي وتحذيراتها “قبل العبور أنظري بسرعة جهة اليمين، ثم جهة اليسار. لا تعبري إذا رأيت سيارةً تقبل مسرعة ولو كانت بعيدة…” وقفت على جانب الطريق أراقب مرور السيارات بكل حذر وخوف طفلة الثامنة، وشريط من الذكريات يدور في رأسي الصغير بعدد الأطفال الذين لاقوا حتفهم على هذا الطريق نتيجة دهس السيارات لهم. ولكن، كل هذه الأفكار لن تثنيني عن العبور والوصول الى المدرسة قبل قرع جرس الثامنة… مرت دقائق وانا أراقب الطريق عموما قبل أن أبدأ بتنفيذ الإرشادات، نظرت جهة اليمين لأكشف الطريق فاستدارت معي القبعة الكبيرة وغطت نصف وجهي الصغير الذي اختفى داخلها. ثم استدرت جهة اليسار فحصل نفس الشيء، اختفى نصف وجهي أيضاً داخل القبعة من جديد… لم أعرف كم مر من الوقت وأنا على هذه الحال الى أن أحسست بيد رجل خمسيني تجذبني بسرعة لنعبر معاً إلى الجانب الآخر من الطريق.
كان ذلك الرجل هو خالي حسان، شقيق أمي الأكبر، الذي كان يقطن في الدور العلويّ، لمبنى قديم يتسلق بعض المحال التجارية الموجودة على جانب ذلك الطريق. يبدو انه كان يراقب الطقس عبر نافذة منزله عندما لمحني، واكتشف حيرتي في محاولة العبور، فنزل مسرعاً من بيته، وأنجز المهمة التي كادت تكون مستحيلة، لطفلة لم تكمل عامها الثامن بعد.
مات خالي بعد عشر سنوات عندما بلغت الثامنة عشرة، ولم يك قد أنجب أطفالاً قط.