المسافات

المسافات

نبيلة يحياوي

اللوحة: الفنان الأميركي ستانتون ماكدونالد رايت

المسافات، جزء من الفراغ الذي يفصل الروح عن الجسد، هذا البعد الذي يهزم الفوضى في ذاكرتنا أشبه بأضغاث أحلام، نحن في جزء بين الزمكانية المطلقة.

لا نلتقي صدفة، الصدف لا تختصر الطريق إلى قلوبنا، إن التقينا فلأننا أعدنا روح اللقاء إلى أجسادنا، الصدف ُتتركُ جانبا يا صديقي فكم من مرة اجتزنا نفس الطريق، وكانت عقارب الساعة تشير إلى اكتمال تاريخ الحدث؟ لكن نحن كالصبية نعتقد أننا نغيرها بالإبهام نحرك العقارب كما نريد، نغش لنخدع أنفسنا أن الوقت لم يتأخر أو انتهى، لكن ماذا عن الساعات المعلقة في الجدار! عن شروق الشمس التي لا تغادر مساحة السماء الفيحاء إلى أن يأذن الغروب؟ عن صوت الأمهات قبل الفجر في زمن واحد! تخاطبنا: استيقظوا، مع نظرات الحب اللامتناهية؟ لم لا تختل الموازين هنا؟ لم لا تهرب اللحظات لتشكل عالما آخر؟

نحن كالصبية دوما كلنا نتشابه، كنت أذكر ونحن نجوب البراري بكل عفوية، وكانت فاكهتنا المفضلة التين، تمتد أصابعنا للنيل منها قبل الأوان، ومن شدة خوفنا من اللوم والعتاب كنا تضغط عليها بأصابعنا لتظهر طرية ناضجة، هل كنا نخدع الزمن في تملصه من حقيقة أنه منفلت من قبضتنا؟ 

 كنا نعود إلى نفس المكان كل مرة، إلى البراري التي اقتحمناها في جنون، لكننا نجد التين قد سرق من قبل صبية آخرين، لم نكن نأبه لحركة الزمن حينها، إن الإنتظار مسافة أخرى تمتد وتقصر في ذواتنا دون أن ندرك ذلك، لعلنا لم نجتز نفس الدروب أو تهافتت علينا حسرات الماضي، في كل مضيق من يدري كيف كنا قبل اللقاء الأول؟ أو كيف كانت خطواتنا التي لا تتشابه؟ هل حملناها رغما عنا، أم كانت مجرد أحلام تشبه طيور السجون في أقفاص موصدة.؟!

لنلتفت إن شئتم.. الالتفاتة الأولى هي نصفنا الذي رحل، والنصف الآخر مسافة المستقبل التي نخشاها أكثر.. تُبدِّد غيمنا وتُمطرنا آخر سنوات العمر في مراتع قلوبنا التي لم تنبض بعد إلا في لحظة ميلادنا.. هو ذاك الجزء الذي يشبه محطات الوجود.. يا للنقطة السخيفة التي أتت قبل الأوان قبل أن تكتمل كل مراحل البدء.

 ساقول أمام الفوضى التي نعتقدها أننا أبدا لن نلتقي هنا، لن نلتقي في الفراغ، لن نلتقي في البعد الروحي، ولن نلتقي بعد المسافات، كل مسافة تقطعها قلوبنا لتصل إلى النهاية السرمدية التي ستبدأ كل مرة من جديد، بعض الجوانب المظلمة من حياتنا تشبه هذه المسافات.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.