مشهده الأخير

مشهده الأخير

مصطفى البلكي

اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم

تدخل الرواق المغلق بمفتاح لا تملكه إلا هي، تفتح الدولاب، تسحب الشال المبقع بدمه، تقربه من أنفها، وتبحر، تري نفسها وسط جمع غفير من النساء، في كامل زينتها، والبنات حولها بالزغاريد تصيح، وبعض الجدعان يمسكون بالمصابيح، وأمها ترش الملح، وعلى إيقاع الكفوف راحت الأغاني تتردد من أفواه البنات:

يا عروسة يا أم غالي      انجلي ولا تبالي

هي في شغل عن تلك الطقوس، تقوم باسترجاع صورة زوجها، وكلامه الذي دخل في رأس والدها وهو الغريب الذي ساقته لقمة العيش للعمل في مدرسة البلدة.

وسط هذا الصخب يبرز ابن العم كعفريت العلبة، بزقلته اعترض الموكب، وقالها صريحة:

ـ محدش هيا خدها غيري

دوت الكلمات في براح الشارع، فسمعها كل من في الموكب، وكل امرأة تنظر من كوة، والكل انتظر رد فعل الأب، المعروف عنه الصراحة وأنه يقول للأعور صفته في عينه، إذا ما حاد عن طريق الأسلاف.

طال صمته.

تجرأ ابن العم، ودق زقلته في الأرض وكرر كلامه، تقبضت ملامح الأب وصرخ فيه: تأدب.

صاحب الزقلة قال إنه طبقا للعرف يحق له أخذها من فوق ظهر الفرس.

ألجمته الجملة، فسربت هي نظرة إلى الأب فوجدته قد أطرق برأسه إلى الأرض، قالت ليس بيده اليوم حيلة، وما عليه إلا الرضوخ لعرف شارك في المحافظة عليه.

وسط اللغط الذي بدأ يحتل الألسن، دخل في حالة من الصمت مكتفيا بتطويق الوجه المنمق بعينين يتسكع فيهما الدمع، راقب وجهها المحتقن بسخونة الخوف الذي سرب العرق من مسام وجهها فشوّه زينتها، جاعلاً خطوطا سوداء تنساب، لتسكن الوجنتين.

وكالغريق المتعلق بقشة تنتشله من خضم أمواج متعاركة، تريد سحبه إلى هوة سحيقة، قالها بدون توقع وبدون سابق تجربة:

ـ نأخذ رأيها.

ـ ده مش في عرفنا.

ـ بس ده في عرف خالق الخلق.

ـ وعرفك؟

ـ في الحتة دي مينفعش.

همهمات وكلمات لا أول لها ولا آخر، تريد إخضاعه لرأي العرف الذي هو رأي الجماعة، تركهم حني جفت منابع الكلام، فزعق فيهم متسائلاً كيف حال أحدهم إذا ما أجبر على أكل لقمة لا تروق له؟

هنا توحدتْ معه، وشعرتْ أنها الأثيرة لديه ومن أجلها يخوض معركة يبدو من الوهلة الأولي أن النصر لن يكون حليفه.

الزغاريد التي دوت من أسطح البيوت، ومن النسوة اللاتي حولها، جعلت الوجوه المعقودة تفلك كل خيام التردد وتقول:

ـ على بركة الله.

لم يقتنع صاحب الزقلة، فما كان منه إلا أن طوحها، وجعلها في اتجاه الرأس.

تنتفض، وهي أمام الدولاب، وتضم الشال إلى صدرها، وتنظر إلى الطاقة تفتحها بالمفتاح المربوط في عقصة الصوف، تطل الصورة، تسحبها، وتنظر إلى الرأس، وتفكر: كم تحمل من ضربات.. تحاول بكل ما تملك من قوة، التملص من مشهده الأخير، محاولة لا تكتمل، فتوزع نظراتها بين الشال والصورة، وتمنح نفسها للمشهد…

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.