العاصفة لاتزال مستمرة

العاصفة لاتزال مستمرة

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان الياباني أوتاغاوا كونيوشي

لا زالت العاصفة مستمرّة، صوت الرّيح يخترق جدران البناء الشّاهق للمستشفى فيرمي القشعريرة في اللأبدان الرّاكنة إلى الدّفء الإصطناعيّ داخل جدرانها، نظر من الواجهة الزّجاجيّة المطلّة على بحر بيروت، قطرات المطر الكثيف تحجب بيوت الأشرفيّة العتيقة ولا يبين منها إلّا الحديث المرتفع البناء. 

قاعة الزّوّار تعجّ بأشخاصٍ منقسمين مجموعاتٍ من ثلاثٍ أو أربع يتحدّثون بأصواتٍ خافتةٍ مهدّئين خواطر بعضهم البعض.  

عدّل وضعيّة قبّعته وتوجّه إلى غرفة العناية الفائقة.

  • مساء الخير، تأخّرت قليلًا بسبب ضغط العيادة. أين المريض؟
  • لحظة دكتور، أجابت الطّبيبة المقيمة وهي تنهي عملًا كانت بدأته على شاشة الكومبيوتر، ثمّ تركت كرسيّها وتوجّهت لترافقه إلى غرفة المريض.
  • –       “لوين، لوين، على مهلكم” هرعت الممرّضة المسؤولة راكضةً خلفهما وهي تحمل بُرْنُسًا ورقيًّا مطهّرًا رفعته بوجه الطبيب “ولويا دكتور هيك فايت بدون ما تلبس”

من البُرْنُس إلى الكمّامة فالقفّازات، اكتمل الزيّ الرّسميّ وأفسحت لهما الطّريق نحو غرفة المريض.

كان طفلًا في الخامسة من عمره، تمّ نقله من مستشفًى خارج العاصمة لإصابته بالتهاب قويّ في السّحايا منذ أسبوع ولكن دون تجاوب مع العلاجات التّقليديّة.

  • هو بحاجة مطلقةٍ لأجهزة التّنفّس الصّناعيّة، ونحن عاجزون عن فصله عنها، لا أمراض وراثية في العائلة، ولا حالات التهابات شبيهة في محيطه، قالت الطّبيبة متمّمةً الملخّص الطبيّ الذي أعطته إيّاه عن الحالة عندما هاتفته منذ بضع ساعات ليتّفقوا على خطّة العلاج الأوّليّة.
  • وماذا ظهر في الزّرع الأوّلي في تلك المستشفى؟
  • لا شيء يا دكتور، لسوء الحظ كانوا قد بدؤوا بالمضادات الحيويّة مسبقًا ودون أن يقوم طبيبٌ بمعاينة الطّفل وإجراء الفحص السّريريّ، ممّا أدّى إلى عدم ظهور الجرثومة في الزّرع. 
  • –       “صار ال”انتيبوتيك” متل ال”بون بون” مين ما كان بيوصفوا لمين ما كان”، قالت الممرّضة من خلفها وهي تسترق السّمع.

كانت على حقّ، فبيع المضادات الحيويّة دون وصفة طبيبٍ أصبح أمرًا شائعًا رغم خطورته المباشرة على الحياة ورغم تسبّبه بارتفاع نسبة الجراثيم المقاومة للأدوية.

كان الطّفل طريح الفراش، يصله الأوكسيجين عبر الأنبوب مباشرةً إلى رئتيه، لونه باهتٌ، وأطرافه قاتمة اللون.

سرّح نظره سريعًا على بيانات أجهزة المراقبة، نسبة الأوكسيجين منخفضة والضّغط على الحدّ الأسفل المقبول رغم الأدوية الرّافعة للضّغط.

فوق رأس الطفل صورة القدّيس شربل مع كيس شفّاف عليه اسم شربل على شكل قنديل زيت فيه قطنة مغمّسة بالزيت وبعض من البخور، وصورة للعذراء تحمل المسيح وبجانهما قرآن كريمٌ صغير الحجم. 

ذلك التّناقض كان مألوفًا في ثقافةٍ مكوّنةٍ من مزيج حضاراتٍ ترفض كلّ منها بشكلٍ قاطعٍ معتقدات الآخرين من النّاحية الفلسفيّة ولكن أتباع كلّ دين لا يجدون حرجًا في اعتناق تقاليد وممارسات إخوتهم في الإنسانيّة. 

الوالدة منحنيةً فوق سرير ابنها تتلو آياتٍ قرآنيّة بحرارةٍ والدّموع تتدفّق من عينيها، وبجانبها سيّدة تقاربها في العمر تلبس صليبًا ذهبيّا ظاهرًا فوق ثوبٍ أزرق داكن اللون يكاد يحاكي البقع الزّرقاء المائلة إلى السّواد على أصابع الطّفل في يديه وقدميه. كانت تشدّ على يدها وتحضنها: “ان شالله يقوم بالسّلامة يا إختي”.

إنتظر أن تتمّ السّيّدة صلاتها قبل أن يعرّفها بنفسه ويسألها عمّا حدث مع الطّفل قبل دخوله المستشفى.

رفعت عينيها الدّامعتين وأخذت تخبره ما حصل بصوتٍ تخنقه العبرات. كانت في مقتبل العمر ولكنّ الأسبوع الأخير بدا وكانّه أضاف إلى عمرها دهرًا ونيّف، فبان وجهها مرهقًا وعيناها تعبتان غائرتان في محجريهما. 

  • “ما كان به شي يا حكيم” كانت تلك العبارة الإستهلاليّة المعتادة عند أهل جميع المرضى، “بدأت حرارته بالإرتفاع ليلة الجمعة، وكان مُرهقًا تعبًا وكنت أجد صعوبةً في إيقاظه” وخنقتها العبرات
  • “ذهبنا به إلى “الفرمشيّة” عند مدخل الضيعة”، تابعت جارتها وهي تحاول تخفيف مجهود الكلام عنها، “ما تخافي يا ستّ، هيدي ضْرُوْرَه وفيروس”، هذا ما قاله “الزّلمي” هناك وأعطانا دواءً علبَتُه حمراء وزرقاء وعليها مربّع أخضر، وطلب أن نعطيه ملعقة كبيرة صباحًا وظهرًا ومساءً لمدّة أسبوع.
  • صحيح يا دكتور، أكملت الوالدة المفجوعة، وأنا فعلت هكذا، لم أتأخّر عليه ولو لحظة بالدّواء.
  • “أيه مزبوط يا حكيم” سارعت صديقتها بالقول “وهذا الدّواء جيّد، أنا أيضًا إبني أخذ منه الشّهر الماضي وتحسّن عليه في ظرف يومين”
  • ولكن حالة إبني استمرّت بالتّدهور، وبعد ثلاثة أيّام لم يعد يستيقظ معنا فأدخلناه المستشفى.
  • هل عاينه طبيب وأجرى الفحص السريريّ اللازم ليقرّر أين موضع الإلتهاب وليؤكّد لك على صوابيّة العلاج بالمضاد الحيوي؟ سألها على مهلٍ وهو يعرف ما ستجيبه.
  • كيف يعني يا دكتور؟
  • “الأنتيبوتيك” يا مدام من وَصَفَه لإبنك؟ قالت الممرّضة المسؤولة موضحةً للوالدة
  • الحكيم بالفرمشيّة يا إختي، أجابت السيّدة ببساطة.

نظر بحزنٍ إلى تلك السّيّدة المسكينة، قد أعطوها دواءً دون أن يتمّ تشخيص الحالة، كان التهابًا حادًّا في السّحايا ولم يتمّ علاجه بالشّكل الصّحيح وتفاقم إلى أن وصل إلى حدّ يتخطّى القدرة العلاجيّة وحينها فقط عرضوه على الطّبيب.

 كانت من أولئك الأشخاص الذين يعتبرون أنّ كلّ من يلبس مريولًا أبيض هو مخوّل أن ينصح بعلاجٍ أو دواء، وكان لحظّها العاثر أن سقطت بين أيدي من لم يعترف لها أنّه غير مؤهّلٍ لإجراء الفحص السّريريّ ولا التّشخيص فباعها علبة مضادّ حيويّ كيف اتّفق.

  • هل أخذ ابنك كل الطعومات اللّازمة منذ ولادته؟ أردف سائلًا وهو يخشى الجواب
  • –       “يقطع القلّة يا حكيم” أجابته متنهّدةً وهي تخفض نظرها بحزن.
  • وكم مضى عليه وهو يحتاج جهاز التّنفّس؟.. تابع سائلًا.
  • بعد أن دخلنا المستشفى استمرّت حالته بالتّدهور وحين وضعوا له هذا الجهاز قالوا لنا يجب أن تنقلوه إلى بيروت لم نعد نستطيع له شيئًا هنا.
  • طمّنّا يا دكتور، شو وضع الصّبي؟ سألته جارتها بلهفةٍ
  • نحن مستمرّون بالعلاج الذي يغطي كافّة الجراثيم التي قد تؤدي إلى التهابات السّحايا وسنكمل فحوصاتنا ولكن المشكلة لم تعد فقط على مستوى التهاب الدّماغ فباقي أعضاء الجسد بدأت تتأثّر سلبيًّا من الإلتهاب.
  • كيف يعني يا دكتور؟ سألته الوالدة والهلع واضحٌ في صوتها
  • –       “يعني علينا أن نكمل الفحوصات وأن نستمرّ بالعلاج”، وأكمل بنبرةٍ منخفضة، “وعليكم أنتم أن تصمدوا معنا وتتابعوا الصّلاة”
  • –       “ما تركنا حدا ما صلّينالو يا حكيم، هشّلنا القدّيسين، بس إلّا ما حدا يسمع”، أكملت الجارة وهي تقرع صدرها.

خرج على مهلً من المكعّب حيث المريض وبدأ بخلع الزّوائد التي أضافها إلى هندامه قبل ولوجه تلك الغرفة.

  • إذا سنعيد فحص السّائل النّخاعي؟ سألته الطّبيبة المقيمة بهدف تأكيد خطّتها العلاجيّة
  • صحيح ولكن أطلبي الفحص الجينيّ الجرثوميّ علّنا نستطيع تحديد البكتيريا المسؤولة، وعندما يسمح أطبّاء العناية بنقل المريض يجب أن نجري صورة الرّنين المغناطيسيّ للرّأس.
  • أشكّ أن يكون ذلك في الأمد القريب، أجابته والحسرة باديةٌ في صوتها فكلاهما يعلمان صعوبة حالة المريض.

أومأ برأسه موافقًا وتوجّه نحو الباب.

الرّدهة لا زالت تعجّ بأفراد عائلة المريض، لا زالت الجدّة تئنُّ بشكل رتيب، حبّات المطر لا زالت تراشق الزجاج، العاصفة لا زالت مستمرة.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.