اللوحة: الفنان الأردني زيد الشوا
تذكّرت أغنية قديمة “الركن البعيد الهادئ”، حين جمعني مكان ناء بها، لكنّها لم تكن بحالتها، شاردة الذهن، رأيتها تترك جسدها بجواري وترحل بعقلها لأودية بعيدة جدًا، فترة ثم اقتربت برأسها وهمست ليّ: أتعتقد أن من كُتب عليه الشقاء، بمقدوره أن يستريح بيوم من الأيام؟
أجبتها: أولًا، توقعت سؤالك هذا، وإن جاء متأخرًا بعض الشيء، ثانيًا إجابتي نطق بها صديق قديم، رحل عن عالمنا منذ سنوات، إذ التقيته وحر صيف أغسطس يأخذ بخناق العباد، رأيته يحمل على كتفيه سنوات عمره وعلى وجهه شقاء وتعب.
وبين يديه أكياس بأوزان مختلفة، سوداء اللون فلم أتبيّن ما بها، لكنّي لمّا قابلته، أقسمت عليه أن أساعده، في البداية رفض بشدة، لكن تحت ثقل الوزن، شيخوخته المبكّرة، وافق على مضض،
حينها سألته: تُرى متى نستريح من شقاء الدنيا؟ متى نبلغ تلك المنزلة التي بلغها بعض الأوّلين، حين يجلسون مع بنيهم وحفدتهم يقصّون عليهم سنوات النحت في الصخر، ثم يُسند المرء منهم ظهره لكرسيه الوثير ويُغمض عينيه مطمئنًا أن بعض نعيم الدنيا في أخريات العمر، “بروفة” عملية لمآله في آخرته..
أذكر أن الراحل وقتها، التفتَّ إليّ وعلى وجهه نظرة باردة، قال: وصلت إلى غايتي فرجاء أنزلني هنا، ساعدته في الهبوط، رجوته أن أحمل عنه بعض ثقله فرفض، ثم همس: أتعرف أن “البنوك” لا تٌقرض محتاجًا.
أخبرته: نعم، أعيّ هذه القاعدة، لكن..!
فَرَدّ وهو يوليني ظهره ويلوّح بشماله مودّعًا، ذاك آخر لقاء بيننا: مهمتك في الحياة ياصديقي، أن تصنع الكراسي الوثيرة.