قطعة مفقودة

قطعة مفقودة

بثينة الدسوقي

اللوحة: الفنان الإسباني سلفادور دالي

عندما غفوت تلك اللحظات القليلة كنت مثل “آليس” التى سقطت فى الجب، حاولت التمسُّك بجدائل أميرة خفية لأصعد إلى باحة الفهم والوجود، لكنى كنت أسقط كلما زدت من محاولتي، انزلقت، وسقطت فوقى كل الحواديت لتدفنني قبل أوان الموت.

ما زلتِ صغيرة، هكذا كانت تقول أمي رغم أنها من تبتاع لى ملابسي التى تزداد طولاً عاماً بعد عام، كنت أحيا بكوني صغيرة، ولهذا كنت دوماً أبتعد عمّا قد يدفع أمي للقول: لا يصح لمن بسنك التفكير بهذه الأمور.

ولكنى كنت لا أتوقف عن التفكير، هى لا يمكنها اقتحام عقلي والتنقيب فيه، ولهذا أصبح عقلى مرتعاً لكل ما هو غير مباح، وأول المحذورات، أسئلتي.

ما زلت أحاول الصعود لباحة الفهم، وترتيب ذلك المربع الكبير –البازل- لعبتي المفضلة وأنا صغيرة، ما زلت أحاول ترتيب قطعه المتناثرة لتكتمل الصورة، ولكن الأمر يزداد صعوبة، وأحتاج لمساعدة أمي، وأمي تحمل بين كفيها مفاتيح العيب والحرام وغير المقبول اجتماعياً، ولا تمد يداً لتنتشلنى من لُجة التداخل التى أحياها.

عندما عرفت “عُمر” تبدلت الأمور قليلاً، فقد اقتحمني بعد قليل بتلقائيته، وصار معاوناً لى فى ترتيب القطع الكثيرة، كنت أزن كلماته بميزان أمي فأجدني أجنح قليلاً إلى الابتعاد عنه، فهو يرتب الأمور بطريقة أكثر تحرراً، ولكني كنت أعاود اللجوء إليه عندما كان الحائط بيني وبينها يزداد علواً، لعله كان الوجه الآخر من ذاتي التى أفتقدها، ولعلي كنت أجد بوجوده تلك القوة التى أحسستها بذاتي ولم أعلم بها.

أتعجب الآن، كيف أخفيت “عُمر” بداخلي ولم تعرف به أمي وهي التي كانت لوقت قريب تعلم أدق تفاصيلي، حياتنا معاً كانت مغلقة لكوننا امرأتين بلا رجل، وكانت هى تُحكم إغلاقها لتمنع عنّا كل المخاوف التى تحياها ليل نهار، لكن “عُمر” تسرب من فرجة صغيرة بنفسي التوَّاقة للخروج من المحبس القسري الذي أحياه.

لا أدرى كم مر من الوقت، ربما شهور أتمّت عاما أو أكثر، وأنهيت أنا دراستي بقليل من الصديقات اللاتي لا أعي سوى أسمائهن، ساعدني “عُمر” في ترتيب كل شيء، وتبقت قطعة واحدة كان من المعروف لكلينا موقعها الحقيقي فى الصورة، لكنه أشار إلي بإرجائها قليلاً، لعله أراد الاحتفاظ بها وكأنه يعلم أنها نهاية ما.

عندما دعاني “عُمر” إلى بيته الخاوي إلا منه كنت أعلم تماماً ما يُراد بي، وما أريده، ولأول مرة أجدني أمام “بازل” جديد، تحمل قطعه حوافاً حادة قاسية، لا يمكنني غير الاعتماد على نفسي لترتيبها، تقاطعت ملامح أمي الجامدة مع عيني “عُمر” أمامي في صورة غريبة التكوين، ووجدتني أسقط مرة أخرى في جُبّ “آليس”، أحاول التعلق بجدائل أميرة خفية فإذا بالأميرات قد اختفين من الوجود، وصارت الجدائل ضرب من الخيال.

أيْقنت الآن.. أنني كبرت. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.