مديرية الأمن اللغوي (4): من قال إن الولادةَ شأنٌ يسير؟

مديرية الأمن اللغوي (4): من قال إن الولادةَ شأنٌ يسير؟

د. سعيد شوارب

اللوحة: الفنان المغربي عبد الله الحريري

اللغة العربية المعاصرة في غيابة الجب.. أسقطتْ عن ألسنة أهلها وعن أقلامهم سهوًا..؟ أُسقطتْ عمْدًا..؟ ليس ذلك هو المهم.. الأهمّ أن تخرج من الْجُبّ.. كيف؟ ليس إلا قوةٌ قادرة على الارتفاع بها من سهوة الموت، إلى صهوة الحياة.. هذه القوة ليس لها إلا مصدران.. قوة كبرى سياسة.. قوة أخرى، هي يقين الغيورين عليها والعاملين فيها.. إيمان المؤلفة قلوبهم حولها.. ثبات الذين يجدون في صدورهم حرجا من التفريط في جنب أمانة ما رعوها حق رعايتها.. الجميع يعرفون أن في صمتهم السلبى، وسلوكهم اللغوي، قطعا للحبل السرى الذى يصل بينهم وبين حقائق دينهم وعلائق أمتهم في حاضرها وفي صيرورتها.

لا يفارقنى اليقين أن وجعًا كبيرا، يضرب قلوبا كثيرة بسبب الواقع المحزون لهذه اللغة الشريفة، ولكن يقينا آخر أكبر لا يفارقنى أيضا، بأن التباكى على اللبن المسكوب، والتباهي بشرف لغة القرآن وقداستها، ليس إلا نوعا من “بضاعة النَّوْكَى”، كما يقول عليّ كرم الله وجهه .

ذلك أن الأمر لن يستقيم حتى تتوافر عليه قوة منظمة قادرة، تلك هي وصية السماء الأساسية على مستوى الفرد، “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، وعلى مستوى الجمع، “خذوا ما آتيناكم بقوة”.. هذه القوة ليست قوة غشم ولا هي ضربة حظ.. هي قوةٌ صادرة من يقين راسخٍ رسوخ يقين الطيور في ربها، وهي تغدو خماصًا لتعود بِطانًا، ولذلك لا يُثبِّطُ من ذلك اليقين أن تتعثر اللغة العربية طويلًا، فليس ذلك التعثر إلا جزئاً من تعثر الأمة، لابد أن يتجاوز طيش الانفعال والحزن، إلى يقين الرؤية العلمية المنهجية .

ذلك هو سر الأسرار في المسألة، وهو المفتاح الذى يفتح كل الأقفال، وينفذ في كل المضايق، وهو الذى ينقل اللغة العربية الشريفة من ورطة الجب الضيق إلى بسطة الأمل وإرادة النصر، وهو الذى يصنع الفارق الهائل بين الذين يسبحون من أجل النجاة من الغرق، والذين يسبحون من أجل حيازة المركز الأول في عبور المانش، فهؤلاء يضربهم الموج باليأس، وأولئك يضربون الموج بالأمل.

واقع اللغة العربية عندنا هو لوحة رمادية داكنة؟ نعم، ولا بأس، فذلك هو لون الصبح إذا تنفس عند باكورة النهار.. ولهذا أجدنى لا أستريح إلى تحليل نفسي ذكي وحزين، للدكتور حسام الخطيب “اللغة العربية إضاءات عصرية ص40” رأي فيه نسبا شابكا بين هذه الخيبة اللغوية، وقائمة الخيبات العربية الأخرى في السياسة والعسكرية والثقافة والديمقراطية وغيرها، تلك المرارات التى بنتْ للهم تمثالًا على صدر الإنسان العربى وروحه، ثم لفّتْه بغشاوة سوداوية ناجمة عن الاعتقاد بأنه أخفق في الوصول إلى أي هدف، وأنه انكسر أمام جبروت الأعداء وتوالى الأزمات، وتتابع الأزمنة المحبطة، ثم يعقب “حسام الخطيب”، بأنه من هنا تصلح اللغة، بل تصبح مهربًا نفسيًّا من مواجهة الشعور الحاد بالخيبة، وبذلك تحقق الحياة اللغوية الفوضوية لهذا الإنسان، ما لا يستطيع تحقيقه في الحياة الطبيعية، فهنا يشهد المراقب فوضى لغوية، تحمَّلُ فيها الألفاظ معانى لم تكن لها، فتتضخمُ كلماتنا، وتتورّمُ جُملُنَا، ونميل إلى الهروب من اللفظ الدقيق والمعنى المحدد، إلى لغة فضفاضة متهرئة، ننتصر بها زيفا في محافلنا، ونُحدِثُ بها ضجيجا في إعلامنا، ونخفي بها جوانح تتفطر بمشاعر الهزيمة والانسحاب المُرّ.

هذا التحليل على دقته وذكائه، خطير في تصوري، لأنه يكرس واقعا نحرص على تفكيكه بل إلى نسفه، لأنه ينفث في وجدان الناس أجواء من الانكسار والضعف، لا تؤدى إلا إلى المزيد منها، ثم يبقى أن تذكير المهزوم بالهزيمة واستداعاء لوحاتها وأجوائها، لا يمكن أن يكون مفتاح النصر.

المفتاح عندي أن تفتح عيون الناس على المعطيات الحقيقية الباقية للانطلاق، وأن تلفتهم إلى مكامن الخطر، وأن تشير لهم إلى سواء الطريق ومصدر الضوء، وإن كان عند نهاية النفق.

فهل في طريق اللغة العربية مكامن للخطر؟ وهل فيها معطيات حقيقة للانطلاق؟ لن أحدثك

عن الخطر الذي مصدرُهُ أعداءُ الإسلام التقليديون الذين عرفوا منذ زمان طبيعة الارتباط الحيوىّ المتبادل بين نهضة اللغة العربية والإسلام، فراحوا يهدمون الأول ليسقط الثانى بلا جهد، ويطفئون الثاني ليغرق الأول في الظلام، وكان من محاولاتهم بلا شك، ما صدر عن ” باريس ” من إجبار المدارس التي تعلم العربية، أن تكون الكتابة بالحروف اللاتينية، عندي، أن هذا ليس غريبا، ولا جديدا، فهم أعداء الدين واللغة معا ويعملون بما يخدم مصالحهم ومعتقداتهم في العلن أو في غيره.

الأشد خطراً من هؤلاء بالفعل، ليس على قضية العربية وحدها، بل على كل قضايا الأمة، ناس منا نحن، تجدهم في الجامعات وفي الإعلام وفي المنتديات يعدّونك رجعيا يجيء من وراء العقل، إذا دعوت إلى التمسك بلسان العرب، ويعدّونك ظلاميا يجيء من وراء العصر، إذا تحدثت عن نور القرآن، وينفثون بخورهم المسموم في أوساط الشباب وأشباه المثقفين والبسطاء، الذين يفترضون الثقة فيمن يسمعونهم، ولا يملكون ثقافة الفرز، فيقعون في الخدعة .

وهذا النوع من مكامن الخطر، يذكرك بما أخرجه البخاري من حديث حذيفة بن اليمان حين سأل النبى صلى الله علية وسلم في حديث طويل، “وهل من بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بلساننا”..!! (الحديث 3606 ـ ص 739 ـ الطبعة الأولى 1997 دار السلام ـ الرياض).

نعم هم من “جلدتنا” ويتكلمون بلساننا ـ عزيزي القارئ ـ وهم بحكم هذا الحديث الصحيح، جزء من نسيج المجتمع، فهم من “جلدتنا” وعلى ذلك فإن سلخهم هو سلخ للمجتمع نفسه، وفي ذلك خطر عظيم، ومن هنا تصبح مشكلتهم بحاجة إلى بصيرة نافذة، إذا لم تستطع أن تغير قناعات هؤلاء الضالين، فإنها تحافظُ على قناعات الناس من ضلالتهم، وتلك المحافظة، لن تكون بالألسنة الحداد ولا بالخناجر الأكثر حدة، بل إن للأمر مناهج أنجع ووسائل أهدأ، تصون المجتمع من غلاة الفكر، ومن غلاة الفعل على جانبى المشكلة، وتعيد اللغة العربية الشريفة إلى موضعها الشريف من لسان العرب المعاصرين وأقلامهم.

كيف؟؟

الطريق في تصوري إذا صدقت النيات إن شاء الله، يبدأ بخطوة أساسية، منها تنشأ المناهج، وبها تعرف الوسائل، وتتمثل في إعادة تنسيق جهود الإصلاح السابقة وتلخيصها، حيث إنها كثيرة جداً.. مبعثرة جداًجدًّا.. طيبة فعلا، وحسبك ـ عزيزي القارئ ـ أن تنظر مثلا في قائمة المصادر والمراجع من كتاب “اللغة العربية، إضاءات عصرية” (الهيئة العامة للكتاب ـ مصر1995) ولا سيما المؤتمرات التى عقدها اتحاد الجامعات العربية، والبحوث التى جرت حول تعريب التعليم العالى، والدراسات المفردة التي قام بها كثير من المهمومين بقضايا اللغة العربية.

هذا التنسيق والتلخيص والتحرير ينبغى أن يجري على مستوى كل قطر، ثم يجري على مستوى الأقطار العربية، ويحسن كثيرا أن يجرى على أيدي منظمات أو جمعيات أهلية مهتمة بحماية اللغة العربية، حتى ننبذ الخلافات السياسة الحكومية والانتماءات الضيقة والمعتقدات الخاصة، ويجري تركيز الانتباه الى أن خطرا حقيقيا يهدد الأمة، وأن اللغة العربية هي إحدى بواباته الكبرى، ونرسخ عند الناس الاعتقاد بأن الأمر هنا ليس أمر لغة أو ثقافة، بل هو أمر هويةٍ وحضارة مهددة ودين، ويصبح ضروريا هنا، أن نتذكر الحكمة التى تقول، إن الماشية وحدها هي التي تتناطح في المجزر، وتنسى أن تسأل السؤال الأساسىّ،” لماذا هي هنا الآن “.. ذلك أن الجزار حين يبدأ العمل، لا يعنيه أىُّ المتناطحين كان على حق

ليس عجباً ـ عزيزي القارئ ـ أن تنشأ منظمات لحماية العربية الفصحى، وأن تتخذ من الوسائل والبرامج وأشكال الاتصالات مع المؤسسات الثقافية والتربوية والجماهير، ما تراه مناسبا للحفاظ على اللغة، أتكون اللغة العربية وهي هوية الأمة وكنز التراث وعقل الأمة، أقل شأنا مما انتصبت له الجمعيات وانتدب له الخبراء؟ أيكون للبيئة وللحيتان والقردة وأنواع الطيور وغيرها منظمات لحمايتها ووزارات بكامل أجهزتها وإمكاناتها المالية والفنية وتترَكُ البيئة اللغوية هملاً بلا حماية؟ أيكون هناك جمعية للرفق بالحيوان وتُعامَل لغة الأمة بلا رفق؟

قيمة هذا التنسيق على مستوى القطر، ثم على مستوى الأقطار العربية أنه يقدم صورة كبيرة للمشهد اللغوي، ترى فيه خريطة الجهود السابقة رؤية “بانورامية” كاملة المعالم، لأن أشد الصور أهمية وجمالا إذا مزقتها، فإن كل مزقة لا تحمل قيمة وحدها، إن قيمتها الكبرى في تجاورها مع أخواتها وتفاعلها، لا فرق بين قطعة ساطعة في الضوء، وقطعة سابحة في الظلال.

لا شك ـ عزيزي القارئ ـ أن قراءة هذا المشهد اللغوي، واستخلاص بياناته هو معطى حقيقي ومهم للانطلاق، ولا يقل عنه أهمية أن نستخلص ما تفضي إليه قراءة المشهد اللغوي في الشارع العربى، ففي هذا المشهد والحمد لله، كثير من المؤشرات التي تؤذن بتحولات مهمة في اتجاه الإصلاح اللغوي، وليس شك أن هذه التحولات مردها إلى حالة من القلق اللغوي، إن صح التعبير، تتطلع إلى الإصلاح وتعكسُ وعيا جمعيا بالمشكلة، وهذا الوعى هو المفتاح الأول بطبيعة الحال، وإن لم يكن كافيا حتى الآن لإحداث المطلوب، فقد قرأ الناس أن حاكم الشارقة أصدر قرارا بتعريب المراسلات في إمارته، وأن مصر اعتبرت مادة اللغة العربية مقررا أساسيا لا يدخل طلاب الشهادات الأجنبية بدونه جامعات في مصر، وكانت قبل مادة اختيارية.

وقرأنا عن مشروع قانون شديد الاهمية قدمه الدكتور “أحمد الجويلى” وزير التموين السابق في مصر، يقتضي تعريب جميع اللافتات في الشارع المصري، وهناك برامج طيبة وشخصيات إعلامية كثيرة، لها قدر معتبر من الاحترام عند الجماهير، تدافع عن العربية وتقدمها في صورة محببة، كما أن هناك اتجاها قويا إلى جعل اللغة العربية مقررا أساسيا في الجامعات والهيئات التي لم تأخذ بذلك بعد، فضلا عن أن بعض الدول العربية مثل سوريا لا تستعمل غير العربية في التعليم العالى.

أليست هذه كلها ـ عزيزي القارئ ـ معطيات حقيقية للانطلاق؟ صحيح أنها ليست كافية.. صحيح أن الصورة لم تزل رمادية..

لكن… هل زعم أحدٌ، أن الولادة شئ يسير؟؟



صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.