اللوحة: الفنان الإيطالي ميكيلانجيلو بوناروتي
رويته بدموع الليالي، تركه والده قطعة لحم حمراء ورحل، جلست في الليلة الأولى بعد وفاة زوجي الشاب أتأمل حالي وكيف سأنفق على هذا الرضيع من معاش ضئيل لن يكفي إيجار السكن؟
لم استمر في أي عمل أكثر من شهر أو اثنين للهروب من نظرات الطمع التي تتفحص تفاصيل جسدي، كل من التقيته يتوهم في خياله المريض أن الأرملة فريسة سهلة، وتحولت نعمة الجمال إلى نقمة أدفع ثمنها غاليا، بحثت كثيرا عن عمل أحصل منه فقط على ما يكفيني وابني دون مساومة على شرفي.
وبعد فترة من التعب رزقني الله بشخص يعرف والدي منحني وظيفة في شركته، رفضت محاولات بعضها مغرٍ للزواج وكرست حياتي لابني لأعبر به إلى شاطئ الأمان وتحقيق حلمه بأن يصبح ضابط شرطة.
عشق الرياضة وشجعته، ثم تفجرت موهبته وبزغت نجوميته وحاز على بطولات محلية ورشحه مدربه لينافس على ألقاب عالمية، وعندما كان يحدثني زملائي عن سعادتهم بنجاحه وشعورهم بالفخر بقراءة أخباره في الصحف أو برؤيته في أحد البرامج الرياضية كنت أقرأ سرا سورة “الفلق”، لم ينقطع دعائي بأن يحفظه الله من شر العين الحاسدة، ثم يرفرف قلبي في السماء وأسرح بخيالي وأحلم به عريسا يرتدي بدلته الرسمية والنجوم تعلو كتفيه.
وبينما كان يرفع معدل لياقته البدنية للانضمام إلى كلية الشرطة بعد شهور، سقط فلذة كبدي في أحد التدريبات مغشيا عليه ونقل إلى المستشفى، تذكرت حينها كيف كان يقاوم آلام يشكو منها، ورفض إلحاحي بالذهاب إلى الطبيب خشية أن يقتطع مبلغا من راتبي المحدود.
تمنيت الموت وألا أسمع ما قاله الطبيب: ” للأسف ابنك مصاب بورم ضاغط على النخاع الشوكي ويحتاج إلى جراحة عاجلة”. طالبته على الفَوْر بإجرائها ووعدته ببيع ما أملك وتدبير تكاليفها خلال ساعات، لكنه أزال عبئا ثقيلا من على كاهلي عندما أخبرني بأن النادي الذي يلعب له ابني سيتكفل بمصاريف الجراحة والإقامة بالمستشفى، ولم افقد الأمل، بالرغم من تحذير الطبيب من خطورة الجراحة، وأن فشلها قد يؤدي إلى عجز ابني.
وخلف جدران قاسية مغلفة بصمت مطبق، تمدد جسد ابني على سرير أبيض، وبعد ساعات مرت كالسنوات استرجعت خلالها محطات رحلة الألم، وما عانيته من متاعب، خرج الطبيب بملامح هادئة غامضة احترت في تفسيرها، هل نجحت العملية أم فشلت؟ ومرت 24 ساعة تحت الملاحظة هي أصعب وأطول ساعات عمري، ويكاد قلبي يتوقف مع أي صفير للأجهزة الطبية خشية انتكاسة توقف النبض.
خرج نصف روحي من المستشفى على كرسي متحرك بعد إصابته بشلل في ذراع وقدم، كان قلبي ينفطر حزنا لكن سريعا ما استجمعت قواي فلا يوجد من اتكئ عليه في هذه المحنة، جلست عند رأسه أكفكف دموعه الساخنة التي تنهمر على وجنتيه، احتضنته بقوة، ولم أتركه إلا بعد أن عاهدني على تحدى هذه الظروف القاسية.
تقدمت بأوراقه إلى كلية الحقوق، وبصعوبة تقبل ابني ضياع حلمه بأن يصبح ضابطا ورياضيا مشهورا، وكان يستذكر دروسه بفتور، مرت الأعوام الأربعة ثقيلة وأوجع ما فيها فترة الامتحانات إذ كان يتوارى خجلا من زملائه رافضا نظرات الشفقة، ويعود والدموع ملء عينيه.
وفي يوم عصيب انهار وهو يشاهد حفل تخرج طلاب كلية الشرطة وبينهم عدد من زملائه، وللمرة الأولى أشعر بعجز كبير، كيف أسعد هذا البائس الذي تفتحت عيناه على موت أبيه، ثم تحطمت آماله الكبيرة على صخرة المرض؟، لكن من سوء حظه أنني لست أقل منه تعاسة ووجع، وأغزل من خيوط الأمل ثوبا ارتديه فقط أمامه لأعينه على تجاوز الصعاب.
ووسط العتمة تسلل خيط من نور، بعدما أعلنت جهة رسمية مهمة عن طلب شباب من حديثي التخرج وكان من بينها تخصص ابني، عدت أزف إليه الخبر، فرد متهمكا: لا تحلمي يا أمي، لا مكان إلا للأسوياء.
أخرستني نبرته المحبطة، ثم استفقت سريعا لانتشاله من الغرق في بحر اليأس وقلت: فلنجرب ولن نخسر شيئا.
خفض رأسه في إشارة إلى رفضه السقوط في أوهام حلم لن يتحقق.
في الصباح جهزت ملفا بشهادات ابني وتقاريره الطبية، وطلبت مقابلة المسؤول عن إعلان الوظائف لتقديم التماس لقبول ابني لكنه رفض، وكأنه استل سكينا وغرسه في قلبي عندما ظل يتحدث بدون رحمة عن أن ذوي الإعاقة لهم وظائف في أماكن أخرى، وأن هذه الجهة الرسمية لا تقبلهم.
عدت أبكي بحرقة وأخفيت الأوراق بين طيات ملابسي خشية أن يراها ابني فاعمق جراحه، قضيت ليلتي وسط دموعي التي أبت أن تتوقف، توسلت للخالق بأن يمنحني الصبر على مواجهة هذه الضربات.
تجنبت الحديث مع ابني بشأن هذه الوظيفة، ولكن نظراته الصامتة كأن تسألني أو تلومني على حلمي، وتكررت خيبات الأمل في وظائف أخرى حتى النسبة المخصصة لذوي الإعاقة كانت مجرد حبر على ورق ولا تفعل، الغريب أنه لم يصرخ في وجهي مرة، مزقني صمته وأصابني بقلق عليه.
مر نحو عام تفرغ خلاله لقراءة كل ما تتلقفه يديه من كتب، ونادرا ما كان يتحدث إلا إذا استدرجته، ثم دخل في نوبة اكتئاب وانقطع عن الطعام، وكان يتناول بصعوبة ما كان يعينه على البقاء على قيد الحياة، وعبثا حاولت إخراجه من دوامة أحزانه، في وقت كنت فيه باحتياج لمن يربت على كتفي لما أعانيه من ألم، وذبل زهرة عمري وانهارت صحته ورفض الذهاب للطبيب، كان استسلامه بمثابة فشل لي وانتهاء حلمي الذي أفنيت عمري في تحقيقه.
وللمرة الأولى أشعر بالذل والمهانة عندما وقفت أمام زميل بالعمل، توسلت إليه بأن يساعدني عن طريق شقيقه المسؤول الكبير في الحصول على فرصة عمل، ورغم عجرفته لكن للمرة الأولى عرفت الرحمة طريقها إلى قلبه وقبل مساعدتي.
تكتمت الأمر على ابني خشية ألا يفي زميلي بوعده فاتسبب له بصدمة جديدة، في هذه الفترة زاد إحباطه وتحول إلى ما يشبه الهيكل العظمي، واختفت معظم ملامح وجهه، كانت نظراته المهزومة الحزينة تخترق سويداء قلبي فتبكيني، بعد أيام أخبرني زميلي بتعيين ابني.
تركت العمل وهرولت إلى بيتي وتتراقص أمامي الفرحة التي انتظرها سنين، كنت في شوق لأراها تلمع في عيني ابني، دخلت غرفته ووجدته ممدا على سريره وبجواره ورقة بيضاء كتب فيها:” سامحيني يا أمي، لم اتحمل عذابك من أجلي، انتظرك عند “الرحيم”.