نورة عبيد
اللوحة: الفنانة اليابانية كاتسوشيكا أوي
ركن أبي بالمنزل طيلة ثلاثة أشهر بسبب كسور أقعدته عن العمل والمقهى حدث ذلك ذات خريف شتويّ إذ كان على درّاجته النّاريّة في الطّريق إلى قليبيّة لينال حصّته من التّبغ من القباضة فأبي كان عطّارا وتحصّل على رخصة لبيع التّبغ والوقيد زادت من مزدريه.
ذلك اليوم تقول أمّي: “انقبض قلبي حينما غادر المنزل والغيم كالقطن لا يخطئ القطر استقلّ الدّراجة، وثبّت خوذته، وما إن انعطف حتّى تسمّرت بمكاني أشيّع طيفه على الوادي حتّى انحجب عنّي تماما لقد كان على الطّريق الرئيسيّ بقريّة بحريّة ما بين كركوان وقليبيّة تسمّى “الخربة” هناك داهمه كلب فارّ من صبيّة يطاردونه بالصّراخ والحجر حتّى برك بالطّريق وأخذ يتقدّم ويتأخّر في نفس المساحة، ولم يستطع أبوك تجنّبه مهما اجتهد فأينما يولّي درّاجته ينتظره الخطر فقرّر التّوقّف وللتّوّ دهسته سيّارة من الخلف يقودها شابّ متهوّر فأوقعه أرضا والدّراجة فوقه.
تقول أمّي: “كنت بالحقل أبحث عن جذور “القُرّيصة” لتكون الغذاء الذي ينتظره الكلّ حين التحقت بي أمّك “عيشه” حافيّة القدمين تتعثّر بين الأعشاب النّاميّة لتخبرني أن عمّكم خميس – وهو عمّ أبي- ينتظرني على قلق، تركت ما جمعت من “القريصة” ترفّقت بجدّتك واستبقت المطر إلى تحت التّوتة قدّام المنزل كان عمّكم خميس متوتّرا ودون مقدّمات قال:
– الجميل تعرّض لحادث بسيط وهو الآن بمستشفى منزل تميم زيارة المرضى الواحدة بعد الزّوال جهّزي نفسك سأمرّ بعد ساعة.
لم يترك لي الفرصة لأستفسر أو أستنفر فلم أعط الفرصة للوساوس أن تعصف بي ولأنّكم إذا عدتم مساء تطلّون على المطبخ قبل أن تطلّوا علينا طبخت لكم على عجل “مرقة بطاطا” وبعثت لجدّكم أخبره فأقبل وقرّر أن نلتحق بالمستشفى للتوّ فتقابلنا وعمّكم خميس.
هناك كان أبوكم ملقى على سرير متآكل في غرفة موحشة يتقاسمها مع مريضين كانت الضّمادات تخفي ثلاثة أرباع وجهه ويده اليمنى ورجله اليسرى في جبيرتين علّقتا إلى عمود حديدي يفصل سريره عن سرير المريض المجاور استبقنا أنينه بالممرّ فنظر إليّ عمّكم وجدّكم فلم يُطلق الدّمع ولا الحرف كنّا بغرفة نتدافع حتّى نصل إلى مرضانا إذ ما يزيد عن عشرين زائرا لثلاثة مرضى
حينما سرّح بصره في عناء تقاطعت أعيننا فاكتفيت بالإشارة إلى أن عدنا هنا كنتم قد تيقّنتم من الخبر “
مضى أسبوعان على هذا الحادث الذي أخلّ بنمط حياتنا، وشغلنا عن أنفسا فلا حديث إلاّ عن صحّة أبي وعن موعد عودته
وكانت أمّي تجتهد أن تأخذنا نحن التّسعة لنعوده وكانت تغالب الأتعاب والظروف حتّى توّفر الرزق والاطمئنان وكان جدّي صمّام الأمان فاجتهد وصديق أبي محمد حسونة على أن يقنعا طبيبه المباشر بمغادرة المستشفى على أن نوفّر له أسباب الرّاحة بالمنزل، وكان لي من هذه الرّاحة راحة فبعد أن تقضي أمّي شؤون أبي يستدعيني لأقرأ له ما تيّسر من الشّعر والنّثر وطرائف العرب.
كان لكتاب الكامل في الأدب للمبرّد ألفة محبّبة في الجمع بين المعرفة والأدب جمعا كريما وكان للمقامات طرافة ونباهة وكان في أساس البلاغة بلاغة وجّهت خاطري لإكبار أبي وعطف قلبي على الكلم.
صارت هذه العادة عبادة فبعد كل جلسة أنصرف إلى مراجعة دروسي وبي رغبة إلى العودة إلى الكتاب الذي بقي حذو أبي، واحتراما لأبي ساعتها لم أسطُ على زاده من عيون الأدب وإنّما تركته يوجّهني كما يشاء طلبا لمتعته ودفعا لملله.. كان يتخيّر العنوان ويحدّد ما سأقرأ في يقين اتخذ جلستي ثمّ أضع وسادة على ركبتيّ وأشرع في القراءة ويذكّرني أبي في كلّ مرّة بالنّظارة فأذكّره أنّني لا أحمل نظّارة
لقد وهبتني إشارته عليّ بالنّظارة أمانا؛ فهو لجزيئة من الزّمن رأى نفسه من سيقرأ وكان ذلك كافيا ألاّ أتعثّر أو أرتبك وعلى ذلك سرى الخطأ وفشلت في أداء قراءة تلذّ لحافظ الفرقان فراوح بين تقويم الفتحة والكسرة والضّمّة وبين شرح بعض المقاطع ولا سيما “المقامة الدّيناريّة” من مقامات بديع الزّمان الهمذاني.
كنت تلميذة في السّنة الأولى من التعليم الثانوي، وكان عمري لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة وكنت شديدة الولع بخزانتيْ أبي وأختي التي التحقت بالمدرسة التّرشيحيّة بمدينة نابل
كنت أترصّد ما يقرآن، وأسجّل العناوين، وأتقاوى على فهمها ولفت انتباههما أنّني أقرأ ما يقرآن
كانت بالكتب إشارات وتعليقات بقلم الرّصاص تثير فضولي إلى حدّ اللاّمبالاة ولئن فهمت بعض التّعاليق فلم أفهم كتابة العدد 314 تحت بعض الصّفحات مدوّرا بحبر أحمر قان،كان يستحضره أبي من شقائق النّعمان
حين سألت أبي عن العدد أخبرني أنّ 314 هجريّا أتت الأخبار بمقتل الدّمستق و استشراس الأقباط من جهة مكّة وتعذّر الحجّ كليّا من جهة العراق وانصرف أولي الأمر عن المصالح للمصلحة
وقد دوّنت ذلك العدد لا أعرف كيف المهم أنّ الأمم هي المسؤولة عن ضعفها وسقوطها وربّما حزّ في نفسي منع الحجّ، ولم لا يمنع في ظروف مغايرة؟
ستكبرين وقد تفهمين ما أقرأ أحسن منّي وربّما أعجبني العدد ألا تحتفلين بعيد ميلادي كلّ 14 / 03 من كلّ سنة
ربّما ساعتها لم أفهم أبي جيّدا لكنّتي الآن أستطيع
لم أسأل أختي يومها عن تدوين نفس العدد، فلا يمكن أن تقلّد أبي تقليدا أعمى، وهي أيضا ليست بهذا الغباء، والمهم أنّ الكتب تختلف اختلافا جذريّا
فقد عرفت أنّها تقرأ كتبا ذات مرجعيّة سياسيّة، فلم أشأ أن أحرجها، ولم أسمح لها أن تديرني كما تشاء، وبعد أن رُفع الحضر عن الكتب السّياسيّة، أخبرتني أنّ العدد 314 كان رمزا للمواضيع التي ستناقش بعد التّداول على قراءة الكتاب من قيل الرّفاق، على أنّها الآن في حلّ من الفكرة والكتاب، تنعم بحسّ وطنيّ أمين تدرّب عليه النّشء أنّى كانت في القسم أو في البيت، وحتّى على الشّواطئ والغابات حين تطلب المتعة والنّسيان فقد أنهكها الضّجر، وألهتها الدّنيا عن المطالعة المنظّمة
كانت تلك المواضيع تناقش بالقاعة 314 من كليّة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة 9 أفريل كانت القاعة تطلّ على “الملاّسين” الأحياء القصديرية، ومساكن الآجر الأحمر غير المطليّة، الرّابضة عند منحدر الرّبوة التي شيّدت على سطحها الكليّة
فوضى من معمار يتزايد بتزايد النّازحين من المهمشّين والفقراء والمنسيّين الذين ضاق بهم العيش بالأماكن الدّاخليّة كما ضاق بهم المنحدر ودفعهم إلى الانزلاق عند منعطفات سبخة السّيجومي.. لقد كانوا وهج نقاشاتنا ولوهلة خلنا أنفسنا وأطيافهم المتراقصة من بعيد نصعد الرّبوة، ونلقي أشرعة جديدة تهزّ عباب المياه الرّاكدة بالسّبخة.
الآن لست في حاجة إلى السّؤال عن سرّ العدد 314 فقد تعافى أبي واعتلّت أمّي بعد خمسة أعوام ها إنّني وأبي بالغرفة 314 من المستشفى العسكري بالعاصمة المطلّ على مقبرة الجلاّز، يخبرني الطّبيب أنّ أمّي تحتاج إلى وداع هادئ يليق بحرمان عائلة مديدة كعائلتنا.