اللوحة: الفنان النمساوي هانز زاتسكا
جئتُك يا “مولانا” رغبة في الحديث إليك، أن أجد لديك إصغاءً لشكواي، أن تستمع لهمِّ يُطبق على صدري ككابوس يمنع عنّي نسيم الحياة.. لعلّي تحرّجت قبل قدومي إليك فعلمي أن أحمالك كبيرة ومشاغلك كثيرة. فهل أخطأت في المجيء إليك؟ وهل ستردّني خائبًا كما فعل غيرك؟
كان “مولانا” يتكئ على أريكته، يُنصت وعيناه مغمضتان وأصابع يمينه تعبث بحبّات مسبحته ببطء، وكلما هممتُ بالسكوت، أجده يهزُّ رأسه كرسالة يبعث بها من عليائه أن: أكمل ما بدأت، فأنطلق لا ألوي على شيء.
قلت له: نُغّص عيشي أنّي منذ بضعة أسابيع، تعثّرت بطريقي وبمحض صدفة وأقسم لك على ذلك وأنت تعلمُ عنيّ أنيّ لا أحلف إلا نادرًا وإن فعلت فالصدق ما أقول بعد ذلك، على العموم، ربما كانت صدفة خير من ألف موعد، التقيت “غجرية” ممنّ سمعنا بهن قديمًا، الحق أنّي كنت كلما تهطّلت على أذني حكايات عنهن أستعيذ بالله منهن، وربما أتفلُ عن يساري ثلاث كما كانت أمي رحمها الله تنصحني بالابتعاد عن الطرقات التي تنقطع عنها الأرجل وتسكن بها الريح في ليالي الشتاء الباردة.
لكنّي تخليّت عن حذري تلك المرة، وألقيتُ وراء ظهري بوصيّة أمي، فاختزلت طريق العودة ذات ليلة هربًا من برودة الطقس وسُخف حبات المطر المتساقطة كأحجار من سجّيل، بمنتصف الشارع المعتم التقيتها، بريّة يتطاير شعرها الأسود كقطع ليل بهيم، تتسع عيناها كبحر هائج حتى أنّي وأجزم بصدق ما أقول، قد رأيت أشرعة سفن غارقة تتهاوي بين جفنيها، أمر أجفلت منه بشدة، هنا تذكرتُ أن النيّة الحسنة هي بساط ينتهي إلى الجحيم بصاحبها، فرغبت في العودة فإذا بصوت أنثوي ناعم الملمس بعث خدرًا بجسدي يقول: لا تخف، فقدرك أن أنتظرك، قدري أن أجدك بعد سنوات من غُربة...
أجبتها ورعشة تأخذ بخناقي: لكني كهل يكاد يحزم حقائبه وأنا… وقبل أن أستطرد في كلامي، أشارت بسبّابتها: هسسسس، ثم عقصت ضفيرتها، قالت: لو لم تأتِ إليّ لأتيتك حبوًا، ثم سألتني: أتخشاني حقًا، أم تتصنّع؟
كنت آنذاك أقف على أطراف أصابعي، عين على الطريق البعيد المضيء الصاخب بالحياة، وأخرى عليها أرقبها بحذر، أجبتها: حذّرتني أميّ كثيرًا من “غجرية” ستظهر ليّ من العدم ذات يوم آت، كانت تُقسم أن ذلك سيحصل، نبّهتني بودّ، توعّدتني أن نهايتي ستكون علي يديها، وأن مصرعي ما بين الجفن والثغر..
كانت “الغجرية” تُنصتُ إليّ، ثم اقتربت منّي حتى شعرت بلفح أنفاسها الحارة، سألتني وبسمة غامضة تستقر على شفتيها المكتنزتين: لماذا تخلّيت عن حذرك هذه الليلة؟
قلت لها: نصيب، قدر لا فكاك منه، فكان ردّها القاطع لإجابتي: ها أنت بيدك أحكمت الحبل حول رقبتك ثم دنت أكثر وأكثر حتى تلاشت أصوات السيارات القادمة من بعيد ولم يبق إلاّ بضع قطرات تتساقط حولنا.
أعتدل “مولانا” في جلسته، احتسى آخر رشفة بقاع فنجان قهوته ثم نظر إلى جٌدره وأطال بعض الوقت كأنما يلتمس بين جدرانه تفسيرًا أو يهرب من مصارحتي، قبيل أن يضطرب فؤادي من جديد، رفع رأسه إليّ وقال: هل أكملت عبور الطريق لآخره؟
فاجئني سؤاله، فرددتُ: أتيتُك سعيًا وراء إجابة، لم تُجد مراوغتي تحت وطأ نظرته الحادة فقلت: كان المطر شديدًا في الشوارع الكبيرة، فآثرت الانتظار بعض الوقت، على أمل..
سألني من جديد وهو يجلدني بنظرته النارية: وهل تحقّق الأمل؟
غمرتني حيرة شديدة زاد من قسوتها حرج كبير، مخجلُ أن يطّلع أحد على عورتك ولو كان “مولانا” فاعتذرت لتأخر الوقت وانصرفت..