ابن التُربي

ابن التُربي

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس

تفتحت عيناي على ليل ظلامه حالك، ونهار مُوحِشٌ صامت إلا من عويل النساء المتشحات بالسواد، إن تكاسلت يوما في مخدعي يلكزني أبي في جنبي، انتفض سريعا لبدء يوم شاق، نجهز المقابر وننظف الأحواش وننتظر الجنازة الأولى.

رحل أبى وانزاح هَم ثقيل كان يطبق على روحي، فرائحة الموت حاصرتني أعواما وأصابت نفسي بالكآبة، أطلقت ساقيّ للريح والأمل في مستقبل مشرق يدغدغ مشاعري ويداعب قلبي، تخطيت أسوار المقابر إلى عالم أجهل معالمه، أنفقت كل ما في جيوبي لالتهام قطع من الحلوى كنت أُحَمْلِقُ فيها وحلمت بتذوقها في أثناء مروري على المحلات، ثم ركلت الكرة التي أعشقها وحُرمت منها رغما عني، شعرت أنني للمرة الأولى اتحرر من خزي لقب “ابن التُربي” الذي كان يتشاءم منه زملائي في المدرسة وينفرهم مني.

 لم أنس قسوة أبي عندما دهس طموحي وأجبرني على الاكتفاء بالشهادة الإعدادية، وقتل حلمي بالحصول على مؤهل عال يساعدني في العمل بوظيفة تلقى تقديرا واحتراما في المجتمع فنظرات الاحتقار التي كنت أراها في عيون من يعرفني كانت تدفعني إلى الانكفاء على ذاتي واعتزال البشر.

تثاقلت الأعباء على أمي عاملة النظافة في إحدى الهيئات الحكومية، وعجزت عن توفير نفقاتي واحتياجات أشقائي التي تتزايد يوما بعد يوم، وفشلت في إقناعي بالعودة إلى العمل في دفن الموتى، ولإرضائها قبلت على مضض وظيفة عامل في الهيئة التي تعمل بها.

بعد ساعات من تسلم العمل الجديد أصبت بصدمة هزتني بعنف وزلزلت كياني، رأيت أمي تنظف المراحيض ويدس البعض في جيوبها قروشا على سبيل الصدقة إشفاقا عليها، وعلمت أن كل من في العمل يعرفون ظروفها الصعبة وأنها تعول أطفالا أيتام.

 شعرت حينها برغبة في الهروب سريعا من هذا المكان، وبينما استعد للمغادرة بغير رجعة فوجئت برئيسي في العمل يسلمني عهدتي وكانت “جردل ومقشة”، رفضت وطلبت عملا آخر فسخر مني وهددني بالفصل، وكأن ما هربت منه في “خفاء” المقابر طاردني في “علن” الوظيفة الجديدة، وأمام المئات من الذين يترددون على الهيئة لإنهاء أوراقهم.

في اليوم التالي لم أذهب إلى العمل، وهِمتُ على وجهي في الشوارع بحثا عن شيء بداخلي لا أعرفه ولا افهمه، ما أدركته بعد التعب من رحلة استغرقت ساعات أنني في حالة نفسية يرثى لها، وأن قلبي ينفطر من الحزن.

في المساء عدت إلى البيت، وجدت أمي تنتظرني بتحفز، وتوبخني بقسوة وتلومني بشدة على ما سببته لها من إحراج بالغ مع رئيسها في العمل، قابلت هجومها وثورة غضبها بالصمت، فكيف أصارحها بشعوري بالذُّلِّ، وهي تتفاخر بعملها الشريف، وبكفاحها أعواما وتصديها لظروف مؤلمة كادت تتسبب في تشريدي وأشقائي بعد وفاة أبي.

 قبل شروق شمس اليوم الجديد حملت “الجردل والمقشة” اللتان تركهما والدي، واخبرت أمي بالعودة للعمل في المقابر.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

رأي واحد على “ابن التُربي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.