اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
رأيته يقف بشرفة منزله، يمزّق دفترًا صغيرًا، إلى فتات وينثره في الهواء، وفي فعلته هذه كان حبورًا مبتسمًا رائق البال، ذاك أمر لم أعهده فيه من قبل، إذ كان دومًا عبوسًا متجهّمًا كأنما يحمل الكرة الأرضية على كتفيه.
هو رجل نادر المثال كما يقولون، سمعته عنه من كثيرين، رُزق موهبة القراءة بين السطور، سبر أغوار النصوص وإدراك الكامن منها، يجيد فك الطلاسم وحياكة الأحجبة، قادر على تبسيط أي مشكلة، كما يملك صناعتها لدرجة تحسده الشياطين.
غير أنه رُزء أيضًا حظًا عاثرًا، فبينه وبين المال عداءً وثأرًا مبيّتًا، جفوة اشتعلت بينهما منذ بواكير صباه، فاقترقا وإن لم يلتقيا إلاّ بضعة أشهر، ثم انصرف كلُّ إلى حاله.
سألته: أستاذي أنت من قديم، لطالما تشيّعت لك ولرأيك، دومًا سرت على دربك وخلفك، فماذ تفعل بالله عليك؟
استمع إليّ وهو يرقب بعينيه القصاصات الطائرة التي تتلاعب بها الريح الباردة، ثم قال بنبرة واضحة وإن لم تخل من كدرِ: دوّنت كل قرش اقترضته من أخي، ثم ازدرد ريقه بصعوبة وأكمل: ثم من آخرين، لطالما حرصت ألاّ أغمط دائنًا حقه، لذا سجّلت كل شيء، ولمّا زادت ديوني، اشتريت ذلك الدفتر الصغير.
حرصت أن يكون من ورق فاخر، بغلاف سميك يصمد ضد غوائل الزمن، يحفظ لأصحاب الحقوق أموالهم، لربما يطول الأمر، أرحل أنا وتظل أموالهم بذمتي، يتوارثها من بعدي من سيحمل التركة ويُكمل مسيرة السداد من أبنائي وحفدتي.. ثم ندّت عنه ضحكة قصيرة، قال: جميل ألاّ تترك بنيك يتكففون الناس، فما بالك لو أورثتهم دَينًا برقبتك!
سألته ثانية: فلمَ تمزّق كتابك الآن؟ ولماذا تضيّع حقوق الناس هكذا؟
كنت أحدثه من أسفل منزله، حرصت ألاّ أعلو بصوتي حتى لا يسمعني أحد، إذ كان الوقت قبيل المغرب بقليل، لكنّه لم يراع ذلك، أعلنّي جهرة: مائة ورقة بدفتري، سجّلت فيها كل شاردة وواردة، بدقة حتى لا تتوه ذاكرتي منّي، أو كي لا تسقط من أبنائي وحفدتي من بعدي.
دوّنت كل ” ملّيم”، سنوات كثيرة وأنا أفعل هذا، لكنّي توقفت منذ أيام ونظرت لنفسي في المرآة، قلت: متى سأسدد؟، بالأحرى: هل بمقدوري السداد؟. سؤالان بسيطان في طرحهما، لكن عجزت عن الإجابة عنهما، فلمّا أيقنت أني لن ادفع لأحد حقًّا هو ثابت برقبتي إلى يوم الدين، ولمّا امتلأ دفتري عن آخره، آمنت أن الديون لا تسقط من رقاب أصحابها، أقسمت أنّي لن أنساها ما حييت، لكنّي لن أدفع، لذلك مزّقت ما دوّنت ونثرته في الهواء. ثم أطلق عبارة أخيرة أودعها حكمة سنوات عمره: نم قرير العين، طالما لا تحمل ضغينة لإنسان، ولن تجور على حق أحد، ثم تنهّد وأكمل: وإن لم تدفع..
ولمّا إنتهى من حديثه، أثنى جزعه لأسفل وقال ليّ بوجه بشوش: سأشتري دفترًا أكبر حجمًا وصفحاته أكثر عددًا.