المواجهة

المواجهة

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس

– تعرف أننا نكشف الكذب بسهولة، لذا أحذرك من مغبة إخفاء الحقيقة.

قلت: لم أخف شيئًا عن أحد من قبل، فلماذا أفعل الآن؟!

– أخبرتنا تقاريرنا أنك تتردد على مقهى صغير بوسط البلد بصورة منتظمة، وتحتسي فنجانًا من القهوة. فهل تفعل ذلك فعلا؟!

– نعم أفعل، فماذا في ذلك؟!

اخترقت عين المحقق عظامي وبصوت نحاسي قال: سنوات طويلة تقترب من الثلاثين، وأنت تمارس نفس الطقس بصورة شبه يومية، وقد تتبعناك فوجدناك لا تذهب أبعد من مكان عملك ولا مكان لك سوى المقهى الصغير، كما أكدت تقاريرنا أنك تقعد وحيدًا بالمقهى، لا تحادث أحدًا، وتحتسي قهوتك صامتًا شاردًا في دنياك، فبدوت شخصًا نظيفًا لا غبار عليه مطلقا وذلك أمر أثار ريبة الأجهزة الكامنة وقررت أن تتوقف أمام حالتك لدراستها..

فرددت: لعلي أبحث عن هدوء لا أجده إلاّ في ذلك المقهى الصغير ثم إني لا أميل لمخالطة الغرباء.

فقاطعني: صمتك المريب، هدوءك القاتل خلال سنوات طويلة يقلق الجميع بالأعلى. يجزمون أنك تدبّر أمرًا بليل، وما بعثت إليك إلاّ لتخبرني الحقيقة ولا شيء سواها ولا أرضى بأقل منها. فهات ما عندك فصبري أوشك على النفاد.

– ماذا أقول؟

– الحقيقة ولا شيء سواها.

فأجبته: الحقيقة! أنني لا أدري لم صبرت طوال عشرات السنين ولمَ ألزمت نفسي بذلك الجمود؟ لعلي كنت أهرب من قدر لآخر، ولعل قدري في النهاية أن أفرّ من المواجهة، لأجدها في النهاية شاخصة هنا، ولا أجد منها مهربا.

بنبرة سمجة: صدقت فيما تقول، لكننا نرتاب كثيرًا في الصامتين وتساورنا الهواجس من الذين يغالون في الالتزام ويثير حفيظتنا من يعتاد الطقوس اليومية، ولا يخرج عنها أو عليها، وقتها نستشعر الخطر ونرى الطوفان على الأبواب. ثم ألقى إليّ “بطاقتي الشخصية”.. فأدركت أنه يُنهي المقابلة، فسألته: هل أنصرف؟

فقال وهو يوليني ظهره ويتبع بعينه من نافذة مكتبه يمامة ترف بجناحيها: ثق أنك لن تبتعد كثيرًا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.