اللوحة: الفنان السوري بديع جحجاح
فجعني خبر وفاة شقيقة صديقتي “أحلام”، وزاد ألمي أن الوفاة جاءت بعد فترة قاسية من المرض ذاقت خلالها المريضة الوجع، وتجرعت صديقتي مرارة الألم، فالراحلة شقيقتها الكبرى وكانت في مكانة الأم.
منعتني ظروف العمل من السفر إلى مسقط رأسي لأقدم واجب العزاء، اتصلت كثيرا على هاتفها وفي كل مرة كان ينتهي الاتصال دون رد، تفهمت ما تمر به صديقتي من حزن شديد؛ إذ جاءت وفاة شقيقتها بعد شهور من انفصالها عن زوجها الذي تبين أنها يعاني مرضا نفسيا على الرغم من أنه يعمل طبيبا.
كررت الاتصال، وبعد عدة أيام وجدت ردا لكنه ليس بصوت أحلام.
تعلثمت الكلمات، بصعوبة قلت: “البقاء لله“.
ردت: “حياتك الباقية، أحلام منهارة هابلغها باتصالك، أقول لها مين؟”
وفي لحظة اغرورقت عيناي بالدموع، وفاضت مشاعري بأحاسيس ماتت منذ أعوام، وسلبت إرادتي وشل تفكيري فأغلقت الهاتف دون أن أجيب، لم اتوقع بعد كل هذه الأعوام أن أسمع صوتها.
كانت “نبيلة” صديقة أحلام أيضا، وهي الفتاة التي أحببتها في ريعان شبابي، وكنت مستعدا لأن أضحي بعمري لإسعادها لكنها دهست قلبي ودمرت حياتي واغتالت أجمل المعاني بزواجها من ابن شريك والدها في التجارة، والذي يكبرها بعدة أعوام لكنه عمل بالخارج وكوَّن ثروة كبيرة.
حمدت الله أنها لم تعرف صوتي، وتوهمت أنني لن اقف كثيرا أمام هذا الموقف، لكن في المساء فتحت صفحة أحلام على موقع “فيس بوك” وبحثت في أصدقائها حتى عثرت عليها.
“يا الله”. نطقها لساني لماذا أسمت ابنها على اسمي، وهي من جرحتني، ولهثت خلف المال؟ أسئلة حائرة لم أسع لمعرفة إجاباتها حينها فقد كانت الطعنة دامية، وافقدتني الرغبة في الاستماع لدفاعها عن نفسها.
بعد أيام هاتفتني أحلام وشكرتني على الاهتمام، وباغتتني بسؤال أربكني وزاد حيرتي:
لماذا أغلقت الهاتف في وجه نبيلة؟
قلت: مَن نبيلة؟
قالت: “بارع أنت ياصديقي في المراوغة.”
حاولت القفز بالحديث إلى منطقة بعيدة وتحدثت عن حزني لوفاة شقيقتها، لكن أحلام خبيرة علم النفس الذكية أعادتني إلى الوجع الذي أهرب منه، وقالت: “نبيلة عرفت صوتك، وبكت بعد أن أغلقت في وجهها الهاتف، وأصرت أن تبلغني بتفاصيل اتصالك على الرغم مما كانت فيه من ألم، لماذا كنت قاسيا؟ وهل كنت تكذب عندما أقسمت بأنك نسيت الماضي؟“
طالبت أحلام بألا تعيد فتح جراح طابت وصفحات طويت، وألا تذكرني بنبيلة مجددا، بينما كان قلبي في اشتياق لمعرفة أخبارها وتفاصيل حياتها، لكن الكبرياء منعني من السؤال عنها، تظاهرت بالانشغال في بعض الأعمال، ووعدت أحلام بالاتصال بها في المساء.
امسكت بالهاتف لأتصل بأحلام وبعد تردد ألقيته بجواري، وذهبت إلى صفحة نبيلة أطالع صور ابنها وتعليقاتها وتفاعلها مع صديقاتها، شعرت من ردودها أنها حزينة وتشعر بخيبة أمل في حياتها، اقتحمتني شماتة استنكرتها على الفور فاغلقت صفحتها.
وصلتني رسالة عتاب رقيقة من أحلام لعدم الاطمئنان عليها منذ الاتصال الأخير، وأخبرتني أنها ستزورني غدا بمكتبي أثناء الانتهاء من أوراق تخص شقيقتها الراحلة في إحدى الجهات الرسمية، شعرت بسعادة كبيرة لمقابلة صديقة العمر التي فرقتنا الحياة أعواما عديدة، لكنها فشلت في أن تنهي المودة والعلاقة الإنسانية العميقة.
جاءت أحلام في موعدها وقالت إن برفقتها ضيفة في خارج المكتب، وبختها كيف تتركها فقالت إنها مفاجأة، تسارعت ضربات قلبي، حبست دموعي ودفنت اشتياقي، ومددت يدي التي طالما كانت تدفئها لمستها الحانية، لم أصدق أن نبيلة أمامي أراها وأحدثها كان حلما بعيد المنال.
جلسنا نحتسي القهوة، صمت لساني فماذا يقول في موقف لم يتخيله؟، ادعت أحلام تلقيها اتصالا هاتفيا وطلبت الخروج من الغرفة، أدركت أنها تريد أن تتركني وحيدا مع نبيلة، وبالفعل حدثت المواجهة التي تأخرت أكثر من 20 عاما، وقبل أن انطق بكلمة بكت، طالبتها بالتماسك، بينما كنت منهارا.
قالت إنها أُرغمت على الزواج، وأن والدها هددها بتشريدها وأشقائها وأمها، وانها سعت كثيرا للاتصال بي وتوضيح ذلك، لكني رفضت الاستماع لها، طالبتها بأن تتوقف عن البكاء وأن ما حدث قضاء الله، سألتها لماذا اسمت ابنها باسمي؟ فأجابت بدون تردد: “لا يوجد بحياتي أغلى منك“
علمت من حديثها الباكي مأساتها مع زوج “شَكّاك”، هدأت روعها بأنني لن اتسبب في مشكلة تهدد حياتها، انصرفت أحلام ونبيلة وجلست شاردا في مكتبي حتى ساعة متأخرة من الليل، عدت إلى منزلي وجدت زوجتي تنام قريرة العين بوجهها الملائكي ولم تنس أن تترك العشاء، مر أمامي سريعا قطار العمر ومحطاته الصعبة ووقوف شريكة عمري بجواري في المِحَن، ثم ذهبت إلى الغرفة المجاروة وطبعت قبلة على جبين ابنتي الوحيدة.
داعب خيالي انهزام نبيلة ونظراتها التي كانت تستجديني بألا أبتعد عنها، في تلك اللحظة عزمت أن يكون هذا اللقاء الأول والأخير، عدت سريعا إلى غرفة النوم واحتضنت زوجتي.