نورة عبيد
اللوحة: الفنان الدنماركي بيتر فيلهلم إيلستيد
في اعترافات الرٌعب إطلالات على مدارات الأنين لا القلب قلب ولا العقل عقل أنتِ خلف الاعترافات تقسمين شعرة موسى
تصفّقين لعابر المستحيل، وترجمين في العلن المتقادرين لا تنتظري الحجّ، فكلّ متعطّب كان خارج التّقدير دائما قدر الإمكان في كلّ مكان
الأربعاء 10 ديسمبر1997 السّاحة الحمراء صوت فوزيّة آت وهارب الكلمات تخنقني وخوف قادم يداهم العمر والتّجربة السّاحة الحمراء وتونس الخضراء يرتقيان يقينا وبقاء
– ملاّ هبلة ملاّ زمّيرة قالت فوزيّة وأضافت: الإصرار على الكتابة في هذا الكذب الممتدّ عمليّة تسويف زائفة وأنت وما تريدين؟
– غنّي فوزيّة تنغمس الأشجان في حزن أوحد “طير الحمام مجروح ” كما كتب شاعر وغنّت أمينة فاخت
حلمتُ يا فوزيّة ذات ليالي أنّي حبلى بالغصّة وبي أرض لا تنتهي ولا تبدأ وأرضي التي أحملها لا حبل سرّة يربط بيني وبينها شبّ البين بيني وبينها فبتّ أرضا تحمل أرضا
الآن والسّاحة الحمراء تعجّ وفوزيّة ترتقي إليّ كيقين أحنّ إلى صباح أربعائيّ جميل وقاس، كانت الأنفاس بيننا هي المشتركة أنفاسك تسبقني، وصوت يعوي بداخلك يلهب جوعي اندسست في هذه الأرض لهذا الصّباح الوليد أنفاسا تهب أنفاسا، أطبقت قلبي على قلبك، وتركتك تنصتين لدّقاته كان احتفالا خاصّا بي، أمّا أنت فكنت دقّات رتيبة تحي في عناء تنتظر إيقاع الثّالثة مساء والموعد مع أولاد المناجم معا لنجعل لهذا الجسد متّسعا من الرّفض
– ثمّة قدر يا فوزيّة جعلك تشكّين وأختك أنّني من سرقت قرط أمّك من مثواكم الماثل بباب الأقواس لم أناقش الأسباب التي جعلتك تخونين صدقي ويقيني أنّك الآن تعرجين، ثمّة قدر يحملني إلى السّاحة الحمراء دون لعنة أو تطيّر، الآن بعد أن انطلق الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة 9 أفريل يوم 10 ديسمبر تمكّنني فوزيّة من رسالة كتبتها مرّة لمّا ثقل درس بمدرج ابن خلدون
كنت أحاور اللّغة ما كنت أعايشها في اطمئنان كان استئناسي بها يشعرني بالغثيان
أصرخ فيما أكتب لم أكتب؟ أكتب ما أعلّق عليه ذاتي كان للرّسالة إيقاع خاصّ كانت صورة أستاذ اللّغة الدّكتور صلاح الدين الشّريف تنهض من بين السّطور تعيد وجع العبارة واللّسانيات ووجع الهويّة والاختراقات كنّا ندرس الشّرط وشرط الوجود شرط إحياء اللّغة، كانت دروسه كافية لتعيد أنسي بالجامعة وكانت كافية لأحمل أرضي من جديد وأنير كلّ الجهات. في الحقيقة لم تكن رسالة كانت تدوينات مقتضبة أو مطوّلة فكأنّني بفضاءات تواصل افتراضيّة غايتها التّعبير لا التّبليغ
رأيت حلما دوّنت بعض تفاصيله رأيت اللّيل رجلا يكبّلني بالاحتمالات لم يبق من تفاصيل الرّجل إلاّ ما يفجّر اليابسة حليبا وماء يتقاطر المطر من شفتيه وأتقاطر من جرح عميق تحت زنديه أخرج من السّرة ولا أعود كانت هذه نيّتي أن أحلم بما لا أستطيع فلا أحلم إلاّ بما أستطيع طويت المقروء ثمّ هرعت مع أولاد المناجم
لم تكن لي نيّة من حضور الحفل، غير الاستزادة من الأمل والوقوف لصوت العامل والفلاّح فالشّارع مزدحم بأصوات أصحاب المصانع كنت خائفة فعامل الدّاموس لم يغادره بعد، وبنت “البيّ” لا زالت بشرفتها، وهذا المساء لنا وليل الأنوار لغيرنا
قالت فوزيّة: «يا داخل الواد عوّام ما تدخل الواد خايف»
رددت: «لو النّدى دمعة سكيبة كوني إنتِ نبض القلوب»
غادرنا الكلّيّة ومشينا تدغدغنا الأحزان الغارقة المسكونة في مكان ما من الذّاكرة
لم تكن الأحداث كافيّة ولم تكن تجربتي نافذة حتّى أكتب رواية الواقع أحسّ بنبض فائض من الأحاسيس والأحداث ما يمكن أن يُكْتَب ولا ينتهي
كنت أحلم بقلم أطول من برج إيفل، وكنت أحلم ببحيرات أكثر من بحيرات فلندا، ليكون القلم والحبر وعمل الذّاكرة
البياض على الورق حياء أبعد من الكلام والموت أفضل من تعاسة خانقة والكتابة اختراع عزيز يمدّد النّبض، ويجترح أوهاما كافية تغسل الأيّام، المهمّ أن أتكاثر وأتكاثر حتّى تجفّ البحيرات ويتوارث القلم والكلم
بلغنا غرفتنا، كان المنزل مجاورا لجامع الرّحمة ومحطّة للقطار وهل من دليل على العمر غير القطار والجامع؟
ما أضيق المكان! وما أضيق الفكرة! كلّ منهما يناظر أملي ويخبرني بموتي المفاجئ سأموت موتة مفاجئة! هذا اعتقادي
كان الشّارع وحده يوقظ فيّ اسم اللّه، ويلهب في أعماقي إحساسا ملهبا بالموت المفاجئ
كانت الغرفة التي تؤويني تفضح ذاكرتي الكتب والمجّلات تقدّم لي حيرتي في استئناس كئيب وفوضى العناوين كانت عاداتي كثيرا ما أجمع بين كتابيْن كتاب في لغتي وكتاب بالفرنسيّة أمّا الانقليزيّة طموح لم أتدرّب عليه، كان جدّي يستفزّ انغماسي في القراءة وترك الحديث معه بالسّؤال «هل في أحشائها قفيز شعير؟» يومها غضبت فكأنّه قد استهتر بي أمّا الآن لعلّي أوافقه فالكتاب متروك والكاتب مجتهد في الإصرار على الكتابة
كانت فوزيّة تسخر من كتبي وأوراقي، وتعتبرها على حظّ وفير لجعل الموقد مشتعلا طيلة ليل شتائيّ رائع
كان المنزل كائنا بنهج السّاحل من ضاحيّة باردو وكانت المطالعة والكتابة ساحلا متوالدا عن ساحل كانت الموسيقى مرتعا للانسياب والأحلام، ونزهة الخاطر في رضى وأمان ورغم دواعي الرّاحة العديدة أشعر مطلقا بالإجهاد
مطلقة التّفكير في أشياء لا تخصّني؛ انتحار خليل حاوي وجيل دولوز وجارنا المراهق المسكين والبوعزيزي وثورة الياسمين
مرّة كنت بمنزل أختي وكانت تعيد ترتيب قاعة الجلوس فدعتني إلى مشاركتها المهمّة فأخبرتها وكنت صادقة أنّي متعبة! لا أعرف كيف تقبّلت ردّي ولكنّها سريعا سألت عن سبب تعبي فأنا في عطلة وزوجة أبي هي من تهتمّ بالطّبخ ومهام الحقل بحوزة أخويّ ومن معهما من العمّال أذكر أنّي أجبتها «على كتفيّ هموم الأمّة العربيّة» فلماذا أفكّر؟ وأصرخ حدّ التّعب فيم أفكّر؟ وكيف أفكّر؟
ما أنا إلاّ غسيل السّنوات ورذاذ الغيمة القادمة
كانت الغرفة دافئة، وكان العشاء مناسبا لطالبتين خبز وزيتون و “شوربا” و “أملات”
بعد العشاء سألت فوزيّة عن اسم الطّالب الذي كان يحاورني خلال فترات الرّاحة التي تخلّلت حفلة أولاد المناجم
لم يكن اسمه مهمّا، وما سعيت إلى اليوم إلى معرفته، فقط أخبر أنّ هذه الأمّة واقفة ولو جهنّم صبّت على رأسها المهمّ أن يتلاقى الكفء بالكفء في كلّ شيء
أنتِ و “الثّقافوت” تعيشون الكتب ونحن هناك نعيش الحياة
– النّخلة ذليلة ما دامت الشّراكة غير فصيحة
– حطّ الحمام حطّ الحمام
– من قتل نداماك حبيبي
– قتلتنا الرّدّة حتّى أنّ الواحد يحمل في الدّاخل ضدّه
كان حديثا عن سنوات الهجنة والدّمار
كان الأدب والسّياسة مدار الحديث أخبرني أنّه سينحدر إلى الأحياء الشّعبيّة المجاورة للكليّة وأخبرته أنّني سألتحق بنهج السّاحل