حسن عبد الموجود
اللوحة: الفنان العماني فهد المعمري
رحلة عجيبة وسط الليل والحقول والذئاب وأعواد الذرة التي تشبه الأشباح المتراصة يصبغها الليل بردائه الأسود الرهيب.
كان يمكن أن يحدث ذلك نهاراً ولكن طبيعتنا ونحن في مطلع شبابنا كانت تتطلع إلي الإثارة والمغامرة. نخرج ومعنا أسلحتنا المعتادة من العصي وقضبان الحديد تحسبًا لمعارك مرتقبة مع الذئاب.
كم كانت ليال جميلة لكن الليلة الأولي كانت أجملها وأشدها إثارة ومتعة يبتلعنا الليل ونختفي وسط الحقول نواجه المجهول كما عودنا آباؤنا بقلوب متحفزة وعيون يقظة.
لابد من جمع الحطب أولاً ونعتمد عادة في ذلك على نخلاتنا السبع المتراصة على حافة الحقل يتسلق صديقي في مهارة وخفة ثم يجذب جريد النخل الجاف ينزعه عن موضعه قد يجد صعوبة أحياناً في ذلك ولكننا في النهاية نحصل على ما نريد من الوقود.
يبدأ الحفل عندما نوقد النار قد يتبعني أحد أصدقائي وينتظر الباقون أنتقي (كيزان) الذرة الناضجة وأملأ حِجر صديقي بها ثم نعود لأصدقائنا حول النار ننزع عن الكيزان أغلفتها الخضراء لتكون معدة لصنع (الفريكة) أوالذرة المشوية كما يسميها أهل البندر نضع الكيزان على النار بعد أن يهدأ لهيبها وتصبح فحمًا متوهجًا أطبق أسناني على الجزء الموازي لخاصرتي من جلبابي ثم أُمسك بطرفيه بيدىَّ في شكل أشبه ما يكون بالمثلث أوالمروحة ثم أباعد بين ساقيَّ فأجعل الفحم المشتعل بينهما ثم أميل وألوِّح بهامتي أعلي فأسفل أعلي فأسفل يملأ الدخان المتطاير فمي وعينىَّ رغمًا عني أسعل وتمتلئ عيناي بالدموع.
لكنني أواصل حتى لا ينطفئ الجمر ويزداد توهجًا قد تلسع بعض الجمرات رجلي العارية فاتنحي عنها قليلاً ثم أعود لمهمتي كم كانت تطربنا فرقعة حبات الذرة وكم كان لعابنا يسيل لرائحتها الذكية وكم كنا نشتاق لطعمها اللذيذ الذي كنا نتحمل من أجله أى شىء.
نُقلب كيزان الذرة فوق الجمر المشتعل حتى يكتمل نضجها ويتناوب أصدقائي معي التهوية حتى تتم (الفريكة) بنجاح.
تكاد المهمة أن تنتهي عندما يخرج أول الكيزان من النار لتمام نضوجه ثم تخرج الكيزان واحداً تلوالآخر.
ما أروع أن يأكل الإنسان بعد تعب ولكن ما أسوأ أن يكدر شىء عليه صفو طعامه ففي دقيقة واحدة كنا نهرول جميعاً نحو القرية لا ينتظر أحد منا أحدًا ومن يقع لا يجد من يمد له يدًا بعد سماع صوته يعوي وسط حقلنا ويقترب منا بسرعة أذهلتنا وجعلتنا نهرب تاركين خلفنا الليل والحقل والذئاب والذرة والنار وأسلحتنا التي كنا نظن أنها تحمينا بل وبعض أحذيتنا البالية التي كانت تعوقنا أكثر مما تسعفنا وشجاعة كنا ندعيها تركناها خلفنا مع ما تركناه من كيزان هناك حول نار الفريكة التي قد تظل مشتعلة حتى الصباح.