نزيهة

نزيهة

ريما إبراهيم حمود

اللوحة: الفنانة الكويتية هاجر عبد الرحمن

 أطلّت نساء حارتنا من النوافذ، مدّت بعضهن أجسادهن من الشرفات فور سماعهن هدير سيارة النقل التي عبرت الشارع الضيق للحارة مغلقة له حتى توقفت أمام البيت المهجور من سنتين.

 راقبن بفضول الأثاث المحمول على ظهر عمال الشحن مجتازين به حديقة البيت المهجور حتى الباب الخشبي الكبير بزجاجه المكسور.

 تناقلت النساء الغمزات والإشارات وهزة الرأس، ثم حملن هواتفهن وبدأن بالمراسلة عبر (جروبات الواتساب) لمناقشة حالة الأثاث والفرش الدال حتما على الحالة المادية والاجتماعية للساكن الجديد في الحي. 

 بعد رحيل عمال الشحن الذين طال عملهم نهارا بثلاث ساعات توقفت أمام البيت المهجور- سابقا- سيارة سوداء طويلة، نزلت منها سيدة قصيرة ممتلئة يرتج جسدها تحت عباءة سوداء موشاة الأطراف بزخرفة من الترتر الأحمر و الأزرق، نزلت وراءها ثلاث شابات فارعات الطول حاسرات الرأس يرتدين أثوابا طويلة ملونة، و حقائب كتف كبيرة، و بيد كل منهن زهرية ورد، دخلن جميعا إلى البيت تاركات أهل الحارة معلقين أنظارهم فوق الباب الخشبي محاولين تفسير الدخول الكرنفالي للسكان الجدد، واضعين مختلف الافتراضات على طاولة النقاش لبقية اليوم. 

 بعد العشاء انتشرت الكراسي البلاستيكية والطاولات الصغيرة أمام عتبات البيوت على امتداد الشارع الطويل الضيق، وتحلقت مجموعات الرجال حول النارجيلة متظاهرين بمتابعة مباراة ما، محتدين لحدث سياسي، لكنهم جميعا استمروا بالالتفات للبيت مراقبين النوافذ الثلاث التي تطل عليهم كون البيت يتوسط الشارع. 

لم يلحظ السكان أي ضوء يتسرب من وراء نوافذ البيت، أثار الهدوء الذي لفّه فضول الشباب، فتسلل بعضهم إلى الشارع الخلفي واضعين صناديق الكولا كمنصة لمراقبته من وراء السور، حتى أزاحت فتاة ستارة نافذة المطبخ فالتصق الجميع بالأرض، ثم زحفوا ملاصقين السور مطلقين أقدامهم للريح هربا. 

 أخبر أحدهم أمه بما رأى، كانت قد أعدت كعكة القرفة المشهورة بين النساء، حملتها مغلفة بالنايلون الشفاف واجتازت البوابة الحديدية للسور حتى الباب الخشبي، دقت الجرس الذي أحدث دويا عاليا، وقفتْ طويلاً متكئةً على حافة الشرفة الأمامية التي تركتْ الكعكة عليها حين يئستْ وعادتْ إلى جاراتها اللواتي عنفنها:

  • لم يُفتح لك الباب و تتركين الكعكة! حمقاء. 

 بدأ القلق يدبّ في الحارة، ظل مشهد السيدة وبناتها عند دخولهن للبيت يعاود الظهور في أحاديث النساء، تخيلت كل واحدة منهن أن ساكنات البيت الجديد يخططن لخطف الرجال منهن. 

 استمر القلق والحديث بالدوران بين أهل الحارة أسبوعا حتى خرجت سيدة البيت منه ترتدي عباءة سوداء تلتصق بتفاصيلها وعلى رأسها شال أحمر يكشف عن غرّة ملونة لا شيب فيها ساحبة وراءها كرسيا بلاستيكيا لتضعه أمام البوابة الحديدية لسور بيتها، ثم جلست عليه لتأتيها إحدى الفتيات بنارجيلة طويلة تدلت من صحنها الذهبي سلاسل ذهبية تربط بين لآلئ حمراء و بيضاء قبضت على (بربيش) النارجيلة بيدها اليمنى، استرخت في مقعدها، و أخذت تنفث الدخان في الهواء رافعة رأسها إلى الأعلى لينحسر شالها عن شعرها الأحمر المربوط إلى الوراء لتعيد رفعه كل مرة في حركة جعلت رجال الحارة الجالسين أمام منازلهم يغصون بطعم النعنع و التفاح من نارجيلاتهم مستهجنين جلوس امرأة في الشارع لتدخين النارجيلة، وهم الذين تعودوا على نسائهم مختبئات في الشرفات أو الأحواش لا يرى منهن إلا الدخان المتصاعد منها، ولا يسمعون إلا أصوات الملاعق في كؤوس الشاي و أصوات ثرثرة مبهمة، ولذا شعر الرجال جميعا بالغضب فأداروا كراسيهم المواجهة للشارع و السيدة لتواجه أسوار بيوتهم، جاعلين السيدة وراءها مراقبين الهواء وهو يعبث بستائر نوافذهم و دخان نارجيلتهم يدخل البيوت عوضا عن أن ينطلق حرّا في الهواء.

 أما النساء فمدّت بعضهن رؤوسهن من الشرفات، وقفن طوال الليل بأيديهن كؤوس الشاي، تتولى إحداهن ملء الكؤوس كلما فرغت، مراقبات السيدة تنفث الدخان في الهواء وتلقي عليهن ابتسامة صفراء كلما تلاقت نظراتهن .

 اخترعت إحداهن قصة عن الساكنة الجديدة و بدأت في دسّها في رؤوس نساء الحارة، تناقل الجميع القصة حتى وصلت للست (نزيهة) التي اكتشف الجميع اسمها بعد أن سمعوا أحد زوارها يلوح لها مودعا.. ورغم أن القصة كانت شديدة الالتواء مثيرة للغضب فيها من الافتراء الكثير، إلا أن السيدة لم تغضب و لم تخرج عليهم بعتاب. 

 في مساء الخميس تفاجأ أهل الحارة بعد المغرب تماما بكراس حديدية حمراء مصفوفة أمام سور بيت الست (نزيهة) حام حولها شباب الحارة، راقبتها النساء من النوافذ والشرفات، لم يجرؤ أي طفل عابث من الاقتراب منها، وبعد العشاء انتشرت رائحة فحم حادة خانقة في الشارع، رأى المارون دخان الفحم يتصاعد من وراء سور بيت  (نزيهة)، ثمّ راقبوا أربعة شبّان لم يروهم من قبل يصفّون ثمان من النارجيلات أمام الكراسي الحمراء، لتخرج نزيهة تتبعها الفتيات الثلاث ترتدين من الثياب ما استفزّ كل السكّان، احتللن الكراسي بجانب كل منهن شاب، بدأ ضباب النارجيلات الثماني يتكاثف ورائحة التبغ تقتحم أنوف وبيوت الجميع، وقف الرجال لنصف ساعة مراقبين المشهد بلا تعليق، تطايرت بعض الشتائم من النوافذ و الشرفات و وراء الأسوار، سمع الساهرون الثمانية الرجالَ يأمرون نساءهم بالدخول، سحب الرجال كراسيهم و ألقوا بها وراء الأبواب و تحت الأدراج وابتلعتهم بيوتهم، حتى خلا الشارع تماما من أي من المارة، وأقفلت النوافذ و أسدلت الستائر، و خلت الشرفات من أي مراقب. 

 ظلت جمرات النارجيلة متوقدة طوال الليل حتى الفجر، وبين حين و آخر كانت ضحكة الست (نزيهة) الرنانة تقتحم النوافذ إلى الأسرّة تحتها لتجعل سكان الحارة يتقلبون في فراشهم دافنين رؤوسهم في الوسادات، وعيونهم مفتوحة وطعم النعناع و التفاح في أفواههم جميعا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.