اللوحة: الفنان الإيطالي جياني سترينو
مرّت دقائق كثيرة، لفحتني نار الغيرة يا مولاتي، أين أنت؟ بعثتُ إليك بقصة بالأمس القريب.. أعلم أنها وصلت إليك، وقع بصرك عليها، أنك مررت بها سريًعا، ذاك غريب. فلم أعهد عنك ذلك من قبل!!
ردّت بعبارة واحدة، ألقتها بوجهي وانصرفت: انتظر فأنا أخوض خناقة، لا تزال نارها مشتعلة الآن.
-مع من؟!، لمَ؟
فأجابتني، سأخبرك لاحقًا.. وأغلَقَت الخط، أحكَمَت قفل الباب وراءها، بعدها تنزّلت على الكون عتمة باردة..
ثم مضت ساعات طويلة ولم يأت هذا.. اللاحقًا، فشرعت في دق الباب بكلتا يديّ، أقلقت راحتها برنين هاتفي، ووميض رسائلي التي انهمرت عليها كشلّال جارف.. لكن دون جدوى، وبعد أن أيقنت أنه لا مُجيب، مكثت وحديّ في خلاء سرمدي، ووساوس تحيط بيّ من كل حدب!!
بعد يومين، أتت تتهادى في خطوها، يسبقها عطرها الأنثوي الأخّاذ، تلمع شفتاها بأحمر شفاه، لا يضيف لجمالها إلاّ زيادة في غيرة مخيفة بعيون نسوة حولها، احباطًا يدير رؤوس أعتى الرجال..
قالت: هل تأخرت عليك؟
فأخبرتها، بعد أن ألقيت خلفي ببعض غضب كانت تبدو بوادره في الأفق: مثلك أنتظره ما بقي من عمر، سألتها: ماذا حدث؟!
كانت لا تزال في تلك المرحلة بين الصحو والنوم، لحظة أستمتع بالإصغاء لحروف كلماتها المتكسّرة وهي خارجة من فمها، دلع الأنثى قبل أن تفيق لسخف الحياة. لطالما سمعت عن خدور العذارى، لكنّي رأيتها وهمًّا وخيال شعراء، حتى سمعت صوتها قبيل التاسعة صباحًا، فآمنت بمقولة: أن من الخمر ما يُسكر، ومن السحر ما يعمي البصر، من الحُسن ما يستقر بين شفتيك.
ثم انطلقت تحكي ما حصل، وأن الغضب حين يعتريها، فإنها تنسى كل شيء، كانت تتكلم بطريقتها، سرحت مع مفرداتها، ثم أفقت وقلت لها: عارفة؟
فضَحِكَت وسَكَتَت، فقلت: إن كان غضبك قد انفجر كبركان قبل فترة، ففي حضني ستجدين ملاذًا آمنًا من كل خوف.
ذروة المجد
اشتقت لأرجوحة صغيرة قصيرة لا يتجاوز ارتفاعها قائم باب بيت جدتي القديم، أتأرجح بها، فأرتفع معها لشاهق كنت أراه وقتها ذروة المجد، ثم تنزل سريعًا كما فعلت بيّ الدنيا فيما بعد، فيهبط معها قلبي الغض، تلك لحظة تتصاعد فيها هواجسي.
لطالما سُررت بهذه اللعبة، فهي بسيطة، تصعد بيّ لأعلى عليّين، فظننت أنّي أرى الدنيا من شاهق، لكنها ثوان قد لا تصل لدقيقة كاملة، قبل أن تصيح بيّ أمي: كفّ عن افعالك الصبيانية.
على رغم أنّي كنت صبيًّا وقتها دون الثامنة، إلاّ أن عبارتها التي تصك بها وجهي، بإيعاز ووسوسة من جدّتي كل مرة، تُفيقني من غفلتي، توقظني من سُبات كنت أظنه يقظة، فأهجر أرجوحتي الصغيرة وحيدة تتدلّى، يهزّها الهواء، حتى يُخيّل للرائي من بعيد أنها مشنقة، أُعدّت على عجل.