بثينة الدسوقي
اللوحة: الفنان الأمريكي جيرمي مان
أعقاب السجائر فى المطفأة الكريستال.. الأكواب الفارغة.. رائحة العرق.. وزجاجة الخمر التى أكره وجودها هنا.. جميعاً ينبئونني بكل شيء.. ينبئونني كيف قضى ليلته.. لا أعلم هل أتقدم فى خطواتي وأدخل إلى بيتي أم أتراجع وحسب
لعلها رحلت.. همست لنفسى.. ولعلها لم ترحل بعد.. لعلها بجواره الآن هناك حيث يجب أن أكون.. اخترت التراجع المتخاذل وأغلقت الباب.. وذهبت
***
مضى الوقت بطيئاً وأنا أقطعه فى تدخين سيجارة تلو أخرى أحرق بها ذاتي.. مرأى الدخان المنبعث مني يؤكد لى أننى أحترق.. السيارة ترقد فى الممر الجانبي والبواب يتأملني من بعيد وهو على دكته الخشبية متصنعاً النوم
لم يكن لدي ما أفعله غير ممارسة فعل الحرق.. انتزعت إحدى شعيراتي البنية وأحرقتها معى.. انتظاره حتى يفرغ من خيانتي أمر مرهق.. لكن مواجهته أمر أكثر إرهاقاً.. اعتدت هذا الفعل لسبب.. بل مئة.. أو ألف سبب لا أذكرهم الآن.. لكن ليس من بينهم أني جبانة.. فى كل الأحوال لم يكن من مكان يضمني الآن فى ساعات الصباح الباكر غير هذا الممر.. وسيارتي
***
أقسم أني ما أشعلت تلك السيجارة إلا للإحساس بأني أملك القدرة على الفعل
رأيت إحداهن تغادر البناية.. أعرف أنها هي.. أعرفهن منذ النظرة الأولى كما يعرفهن الرجال.. أعرف كيف يرتدين ملابسهن.. وكيف يسرن.. وأصبحت أفهم تصرفات إحداهن وهى سائرة فى طريقها تجاورها سيارة محاولة إستيقافها.. إنهما يتجادلان.. ليس فى الفعل.. ولكن جدالهما فى الرقم.. إنه الرقم ودوماً الرقم.. ترى كم أخذت منه هذه الغانية؟ لعله لا يدري.. سأمنحه فرصة للملمة نفسه قبل أن أصعد.. فقط يزعجني مرورى أمام البواب الذى أعلم أنه يعلم كل شيء
عندما أصعد سأجده يستحم.. أو ربما يجلس مسترخياً أمام التليفزيون.. سأشم عطرها الرديء فى كل زاوية.. وسأعثر على شعيراتها الصفراء فوق ملاءات سريري.. سأنظف هذا كله وسأعطر البيت بعطري أنا.. وسأحرق شعيراتها الصفراء على شعلة الموقد فى سعادة كما أفعل دوماً
آه.. ماذا سأفعل أيضاً؟؟
سأنام وأنا لا أستمع لأنفاسه بجواري.. سأنام فى الحجرة الأخرى لأعلنه أنى غاضبة لسبب ما لا أدريه.. القيادة منذ الفجر أرهقتني كثيراً
***
أتوق للأسكندرية.. معه.. لم يكن ذهابي بمفردي لذلك المؤتمر إلا نوعاً من التعذيب وهو يتملص مني كقطرة الزئبق.. أدرك كل شيء.. أعد حقيبتي أمامه.. زياً بعد زى.. وأسأله عما أرتديه فى اليوم الختامي فيشير علي بأن أشتري شيئاً جديداً ويلقي إلى بحفنة مال.. يزداد الوجع.. فهو يلقى بمثلها إلى غانياته.. هل يغير صك زواجنا من الأمر شىء !!؟؟
***
أرتمي على المقعد وأربط حزام الأمان.. سأذهب.. اللعنة عليك وعلى كل شيء.. تهتز المرآة أمامي فأمسك بها جيداً.. ألمح أنفي.. ذكر أنه روماني ذات مرة.. متى ذكر هذا؟؟
عندما جلسنا على ذلك المقعد الحجري متلاصقين، أمسك عني تلك الوردة التى أهداها لي فى أول النهار.. ذبلت المسكينة بعد طول تجوالنا فى كل ناحية كالمجانين، استراحت رأسي على كتفه ولم تزحزحها تعليقات المارة الساخرة من انتمائي له
يهمس لي: الإسكندرية هذا اليوم أجمل ألف مرة.. كأني أراها لأول مرة فى حياتي.. هل هذا الأنف روماني كما يقولون؟
يقبّل أنفى.. يقبلنى كثيراً..
اسكندرية معه كانت قبلاً بجنون قلبي فى ذلك الزمن.. ربما هى بكارة واشتعال مشاعري، وسذاجتي.. ربما هو حمقي
***
هل كانت قبلته فاترة؟
لمست شفتي ونظرت إليهما فى المرآة.. فصرخت السيارات من خلفي!
لو كان في الأمر طفل! لو أني منحته طفلاً لربما كان الأمر غير ذلك.
يمتد الطريق طويلاً أمامي بلا نهاية لا يقطعه جلسات لذاك المؤتمر.. أو مقابلات.. أو عمل أؤديه بدأب.. لا يقطعه رغبة معلنة من هذا أو محاولة خفية من ذاك.. لم أفكر بأن هناك رجالاً آخرين غيره.. إنه إخلاص متعمد أرد به على ما يفعله.. وما أدرك أنه لا يجرؤ على مصارحتي به
أنا أمه.. أشعر أني أمه التى تدرك أكاذيبه الصغيرة وتنتظر فقط أن يكف عنها، يجب أن تظل معرفة أمه عبئاً يحمله ويشعره بالذنب، ودوماً أنا أقود نفسي وسيارتي في صمت لا يقطعه غير صوت موسيقى باخ.. سباستيان باخ العزيز هو من يلهيني.. وأسأل نفسي تلك التي تقود.. لعله باخ.. لعله بات يكرهني لغرابة ذوقي
ما من امرأة تسمع باخ
هل قالها مرة.. قالها مرات؟
كنت أعرف أننا متباعدان الآن.. صار يكره كل ما أحببناه معاً من قبل، هل هى إشارات كان لابد أن أقرأها وأحل شفرتها؟ لا أدرى!
***
أمر بذلك البازار فى طريق العودة وأتذكر طلبه الغريب.. فأقف بالسيارة على جانب الطريق عندما أخبرت نيرة بما قال نظرت لى قائلة: أَوَليست لديك بدلة رقص حتى الآن وأنت تجاوزتِ الثلاثين عمراً والخمس سنوات زواجاً؟ لعلى مخطئة.. لعل نيرة على صواب!!!!
لا أدرى لماذا أنظر لخياناته تلك بذلك الهدوء.. ربما لأنى لم ألحظ فيه قبلاً تلك الرغبات.. ربما لأنى أشعر بنقص ما.. الحق أن أكبر سبب يلح على الآن وأنا أدخل لهذا البازار هو: أننى أترفع عن كل هذا برمته.. ولكن ترفعى هذا لن يمنعنى من شراء بدلة الرقص الحمراء
***
هل أريد أن أصير عشيقته؟ هذا هو السؤال..
أنا لا أريد ذلك.. حياتى معه رغم خياناته ليست على المحك.. أنا لست فى طريقي لفقدانه، إنه يعود لي بعد كل مرة.. لذا لا معنى لأن أتبدل وأصبح عشيقة له.
هل هذا عيب؟
لا أدرى.. جبلت على هذا.. لا يجب أن أفعل غير ما أريد.. وأنا لا يمكننى أن أرقص له كالعاهرات.. أنا كأمى.
هل رأيت ماذا كانت تفعل أمك فى حجرة نومها؟
أضحك.. أضحك حتى البكاء فأنا للحظة فقدت فهمى لنفسى واهتزت قناعاتى لأجل خائن.. هل هذا عدل؟!
ترقد بدلة الرقص الحمراء اللامعة على المقعد المجاور تكاد تخرج لى لسانها
***
عندما أصعد سأجده نائماً.. سأرتدى بدلة الرقص وأتعطَّر وأوقظه بقبلاتي.. عندما أصعد سأجده فى الحمام.. سأكون غاضبة لأنه لم يأتِ كما وعدني ولكني سأدعه يصالحني، وسأرتدي له بدلة الرقص.. لعله سيسعد
عندما أصعد سأجده منتظراً لقدومى.. متيقظاً.. لن يهتم بغير أن يطمئن على وصولى سالمة.. ويضمنى بين ذراعيه
***
عندما صعدت
عندما صعدت وجدت امرأة أخرى ما زالت ترقد إلى جواره، امرأة لا ترتدى بدلة رقص!
***
يعود الممر يحتوينى فى سيارتى.. البواب يسألنى مراراً هل سأصعد مرة أخرى.. ويسألنى.. هل البيه بالأعلى.. ويسألنى أتريدين طبيباً.. ويسألنى.. هل يوجد شىء فى حقيبة السيارة؟
ما زلت أدخن ثانية وأنا أنظر إلى الأمام، ما زلت أراهما ينظران فى عينى، لعلى أخيراً لم أعد أنظر للأمر بذات الهدوء.