د. أمل بشير
اللوحة: الفنانة السورية فايزة الحلبي
اعتدلت في كرسيها وتنفست الصعداء بينما كانت تأخذ قسطا من الراحة قبل قدوم مريضها التالي. أمسكت جوالها تقلب فيه، فتحت الفيسبوك الذي تعشق تصفحه، يدعوها لتفتح صفحات الذاكرة ليحيي ماضيها بما شاركت. سالت دمعة تلتها ثانية وثالثة واخريات. كانت الذكرى من أكثر ذكرياتها حزنا ووجعا في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات رحلت رُبَى صديقتها الجميلة.
أعادتها تلك الذكرى سنوات، تذكرت جيدا عندما زارتها ربى في العيادة وطلبت أن تقوم بإجراء كشف روتيني للثدي فاعترضت وضحكت، فربى لم تبلغ الأربعين، وليس لديها تاريخ أسري بالمرض وهي أم لثلاثة أطفال؛ إذا فمعدل خطورة إصابتها بسرطان الثدي نسبة لكل المعطيات يبدو منخفضا بل معدوما، كما أنها تعلم أن صديقتها اكتشفت للتو إصابة ابنها بداء وراثي يدمر عضلات جسمه ليحيله لشخص عاجز عن الحركة. كم صعب على قلب كل ام ان تعلم ان ابنها الذي يتراكض اليوم أمامها سيكون غدا فريسة للعجر الحركي الكامل فقد يأتي يوم لا يستطيع حتى تنظيف أسنانه ناهيك عن النهوض أو المشي.
طمأنتها بابتسامة عريضة وحاولت اقناعها بعدم ضرورة ذلك، ومع إصرارها، قامت بالكشف السريري على ثديها لتدعم رأيها بعدم ضرورة ذلك، لكن ربى أصرت وألحت واخبرتها انها إن لم تقم بذلك فستقصد سواها، رضخت لقرار صديقتها وقامت بإدخال الأشعة المطلوبة بجهاز حاسوبها.
بدأت تجهش بالبكاء وهي تعيش ذلك اليوم الذي جاءت فيه نتيجة الأشعة لتؤيد وبقوة إصابة صديقتها بسرطان الثدي، كان الخبر صادما لها ربما أكثر من ربى التي تلقته بهدوء كأنها كانت تدري.
بدأت ربى رحلة تشخيص وعلاج قاسية عانت فيها ما عانته ولكنها كانت هادئة تتقبل كل ما يجلبه القدر بمنتهى الرضا. ليخبرها الطبيب انها بعد عام من العلاج والألم قد شفيت تماما ولم يعد لهذا الخبيث من أثر وسط خلايا جسمها.
بدأت بعدها بأشهر تشعر بآلام في بطنها وكانت تستبعد اي احتمال لعودة السرطان، أو لم يخبروها انها شفيت؟ لا مجال لأن تكون أعراضها نتيجة نفس الداء لا بد أن هناك سببا آخر. ولكن كانت مجرد أشعة مقطعية لمنطقة البطن كافية لتخبرها انها أخطأت للمرة الثانية وان ذلك المرض قد عاد، ولكنه هذه المرة لا ينوي الرحيل.
انتشر المرض في معظم احشاء البطن والحوض بشكل احتار له الأطباء. كيف عاد بهذه الشراسة خلال أشهر قليلة؟ وكيف تمكن من غزو جسمها وإسقاط كل دفاعاته بهذه السرعة، لتحل خلاياه الفاسدة محل خلايا جسدها السليمة؟ كيف خسرت معركتها ضده ولماذا؟
رغم كل الأمل والرجاء ورغم كل العلاجات والجراحات فقد عاد قويا كأنه كان في هدنة استعاد خلالها قوته ليعود ويهزمها بشراسة!.. ربى الجميلة ذات الشعر الأسود الطويل الناعم الذي يعشق النسيم مداعبته. والعيون الكحيلة السوداء والبشرة الحنطية التي تنافس حقول القمح في عشق شعاع الشمس لها. ها هي اليوم ترقد في فراشها كأنها شخص آخر غير الذي وصفته، أين ذهب الشعر والعيون ولون القمح؟ يا لهذه الدنيا كم تتفنن في ايلامنا!.
رحلت ربى ورحلت قطعة من روحها برفقتها. فكلما غادرنا عزيز حمل منا قطعة من أرواحنا، درس يعلمنا إياه الموت في كل مرة عندما يصفعنا برحيل من نحب لنعلم انه أقوى من طبنا واطبائنا، وأنه قادر أن ينتزع من يشاء كيف يشاء لنقف عاجزين مكتوفي الأيدي ونحن نراقب أوجاعهم، ذبولهم، انزواءهم وانطفاءهم، نراقبهم يرحلون وتذوي الحياة بأجسادهم شيئا فشيئا حتى تفارقهم الروح تماما، ويا لمهازل الموت! كثيرا ما يكون الجسد عدوا لنفسه، يدمر نفسه، وينزع الحياة بيديه من نفسه.
رغم أنها طبيبة ولكنها لم تعتد رحيل البشر أبدا.. لم تصادق الموت ولم تتقبله الا إيمانا بأن الروح أمانة تعود لخالقها شئنا ام أبينا.
أعادها طرق على الباب للواقع؛ فدعت لصديقتها بالرحمة.. مسحت دموعها واعتدلت في جلستها لتواصل معركتها ضد المرض، فهي واثقة أنها أحيانا وبإذن الله ومشيئته انتصرت في تلك الحرب.