أهل الكهف

أهل الكهف

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الروسي حاييم سوتين

كنت أجاوره الجلوس بسيارته، يحتوينا طريق دائري، يخلو في مثل هذا الوقت من المارة، إلاّ من الهجير، نظرت صديقي في المرآة الأمامية، فوجدتني أمام كهل لم يعش حياته بعد، لربما غافلته ومرّت من تحت أنفه دون أن يدري، وهو يحسبها لم تأت بعد. فلمّا أمعنت النظر جيدًا، رأيتني على صفحة وجهه، بضعة تجاعيد هنا وهناك، إجهاد متأصل في العيون، شرود يلازمنا كظلّنا.

ردّني إلى واقعه بقوله: أتعرف أنك ربما صاحبي الوحيد الذي خرجت به من الدنيا!

فقاطعته: ذلك فضل من الله، شرف ليّ لا يضاهيه شرف آخر. فارتسمت على وجهه ابتسامة، سرعان ما توارت جانبًا، واستأنف حديثه: خمسون عامًا، وزد عليها خمسة أخرى، لا زلت أقف وحيدًا، لا يزال الطفل بداخلي لم يلهُ بعد.

يا صاحبي: لا تزال لديّ هوايات لم أشبعها، ورغبات لم أنل شرف الفشل في الوصول إليها، ثم اتسعت هذه المرة ابتسامته حتى صارت ضحكة قصيرة صافية، وأدار رأسه بعد أن استوثق من أمان الطريق، قال: ياصاحبي الوحيد، لكم تمنّيت أن أمرح على شاطئ البحر، أشيّد قصور من رمال وقلاع، أشاهد البحر وهو يقتلعها من جذورها، لم أتجرع مرارة المنع، تلك التي كنت أسمع بها من أقراني، حينما يُمنعون قسرًا من الذهاب للنادي.

ثم صاح بيّ من جديد، ياصاحبي: لم أقترب من الحب إلاّ مرة واحدة، اقتربت منه حد الثمالة، حتى تلك المنطقة التي يغيب فيها الوعي، يفني الحبيب في حبيبه.. ثم هويت من شاهق، أقسم لك أن ألم السقوط لا يزال يدير رأسي حتى الآن على رغم مرور ثلاثين عامًا على ذلك.

فسألته وهو يلتقط نفسه: ثم؟!

أدركُ أنه سمع سؤالي جيدًا، إذ قام بالضغط بشدة على دوّاسة البنزين، فعوى محرّك السيارة وانطلقت كرصاصة تعرف طريقها، دقائق ثم رفع قدمه قليلًا حتى عاد للمحرك صوابه، قال: ثم لا شيئ ياصاحبي، فأنا لاينفتح قلبي لأحد بسهولة، وإن حدث ما يعكّر صفوه، ينغلق بسرعة البرق، لا يُفتح بعدها أبدًا، وحينما أيقنت أن الدنيا لا تزال تعاندني، تبخل عليّ ببعض ممّا تفيض به على الخلق دون حساب، أدرت ظهري لها. جلدت ذاتي بقسوة لم يعهدها بشر، صنعت لنفسي كهفًا يفوق مأوى الفتية الذين نعرفهم ظًلمة وعتمة، آويت إليه عشر سنوات كاملة، اعتكفت الورى، ثم نظر إليّ وأثنى بقوله: أتعرف أنّي كنت أسمع رنين هاتفي، يخبرني قلبي أنك المتصل، لكن لم تقو روحى على الرد..

فرأفت بحاله، وتذكّرت بعض مما مرّ به صاحبي، وما سمعته من هنا وهناك، وما تناقلته الرواة، همست له: لكنّك تداويت مما بك، تزوجت وأنجبت…. فرفع يده ووضعها على فمي برقة وقال: لم أعرف الحب إلاّ مرة واحدة، وأقسم ياعزيزي أن الزمن لو عاد من جديد، لبعت كل شيء لقاء دقيقة واحدة أركن فيها لمن أحببت.

فسألته بفضول: ماذا لو وجدتها أمامك من جديد؟ ماذا لو عادت الآن ومدّت ذراعيها بالود إليك؟

أحسبه كان يفكر في السؤال، أو ربما ساوره هذا الهاجس من قبل، فقد تمتمت شفتاه بما لم أتبيّنه، كلمات نطق بها لنفسه. لهفة لا يطيقها بشر من جانبيّ لسماع إجابته.. دقيقة مضت، تلتها أخريات ثم امتدت إلى ساعة كاملة، وأنا أنتظر، ونحن لم نصل لغايتنا بعد، ربما لم نعرفها من البداية حق المعرفة، وبينما قرص الشمس يميل للغروب، لم يبق على الدائري إلاّ كهلان، محرّك سيارة يجأر من قسوة سائقها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.