حنان عبد القادر
اللوحة: الفنانة الإسبانية ريميديوس فارو
يعد فوز الشاعر المصري الشاب محمد غازي النجار مؤخرا بجائزة أفضل ديوان فصحى عن ديوانه “إنها تتراءى لي”، في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة للعام ٢٠٢٠، الدورة الخامسة والتي تحمل اسم الأديب الراحل خيري شلبي، نافذة تفتح الأمل أمام كتابنا وشعرائنا ومبدعينا الشباب ليمضوا قدما، ويطرقوا بثقة أبواب النجاح غير مبالين بما يوضع في طريقهم من عراقيل، أو ما يؤخرهم من عبارات التيئيس والإحباط والتقاعس عن شرف المحاولة، فلكل مجتهد نصيب، ولكل محاولة جادة وإن أحبطت آثار كأثر الفراشة، تجتمع سويا لتصنع مجدا.
الديوان الفائز للشاعر محمد غازي النجار: “إنها تتراءى لي”، كان لمجلة «حانة الشعراء» فيه نصيب، حيث نشر الشاعر بعض قصائد مخطوطته على صفحاتها قبل أن يضمها في الديوان، وبعد فوزه بتلك الجائزة، نعرض للقراء إحدى قصائده التي نراها أهلته لمثل هذا الفوز، وهي قصيدة “السقوطُ جماعةٌ والقيامةُ فردٌ”.
النص جاء في مقطعين مفصلين كالعنوان تماما: السقوط جماعة – القيامة فرد، ويعرض الشاعر ما توصل له من نتائج بعد طول تأمل في الحياة والناس، وبعدما مر بكل الإحباطات والمعاناة الإنسانية في المجتمع، وإحساسه بالخيبة، فقد عاصر كل الملابسات التي أجهضت الحلم الجماعي ووأدته في مهده، ورأى أن البقاء فقط لمن يحجب الحقيقة ويفكر بشكل أحادي ويجتث التنوع بجميع أشكاله، وأن التخلف سببه غياب الإبداع، وتغييب العقول، وضياع قيمة العمل، والإعلاء من شأن كل غث وترك الثمين، ووصل إلى درجة هائلة من فقدان الثقة في الشعوب ورغبتها في النهوض، واليأس من تلك الشعوب لأنها اعتادت على القمع والخنوع وقبلت الذل والهوان، وبين الأمل الداخلي واليأس من الواقع، يعيش الشاعر تجربته، وتتبلور رؤيته، تتمثل تلك الرؤية تماما فيما تخير من عناوين دالة وثاقبة، فهي النتيجة التي خلص لها خلال مشواره الحياتي حتى الآن.
يمارس الشاعر لعبة التناقضات وجمعها سويا بمهارة، حيث يجمع في نصه بين اليأس والرجاء في عبارة واحدة، ويتنقل بينهما كما يتنقل عصفور بين أسلاك الكهرباء، فالإرادة التي لم تكن مرئية قبل سقوط الأحلام الكبرى وانهزامها، أصبحت جلية الآن، إذ تعانق السقوط مع النهوض، الهزيمة والضعف مع التصميم وقوة الإرادة، تلك التي يصفها أنها نافذة ومؤثرة كالفايروس أو كالجن، وإقرانه بين الفايروس والجن رائع البتة، فكلاهما غير مرئي، وكلاهما مؤثر حد الموت، وكلاهما ملتبس في مخيلة الشعوب المتأرجحة بين علم وخرافة.
وهي مدوية وبارقة كهزيم الرعد الذي يدخل من أقاصي سموات الروح متتابعا متكسرا مسيطرا حتى يستقر في الأعماق هسيسها، مستكينا في قبوها العميق حتى يحين انطلاقها.
يقول:
هُنا..
حيثُ سقطتْ أحلامُنا الكبرىٰ وانهزمتْ
تحقّقتْ إرادةٌ ما
كُنّا نُحِسُّ بها ونحاولُ إنكارَها أوْ محوَها
إرادةٌ كالرياحِ
كالفيروسِ القاهرِ
كآٓثارِ أقدامِ الجنِّ
تدخلُ كالهَزيمِ مِنْ كُوّةٍ في أقصىٰ الرُّوحْ
ويستقرُّ هسيسُها في قبوٍ خفيْ.
ثم يحملنا الشاعر إلى نقطة التخلي التام عن تلك الطموحات والأحلام حيث انكسار الأفق، فتتشظى عنده تاركة محض ذكرى تبرق من بعيد، عندما نودعها للأبد، هنا نجد أنفسنا أمام عتبتين لطريقين متناقضين تركنا عندهما الشاعر ومضى لنستشف نحن في أي اتجاه نذهب: إما أن نمتلئ بطمأنينة غريبة، ونشعر بالحرية التامة، فنسير في الحياة مبتسمين غير مبالين شامخي الرؤوس فلم يعد هناك ما نهابه، أو نرسم اللامبالاة الظاهرة المتمثلة في شموخ كاذب وابتسامة ميتة، مسلمين أنه لم يعد هناك من أمل يسرق أرواحنا، فالأمل ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؛ ساعتها فقط، نرى مالم نكن نراه قبلا، ونكتشف أن ما أهملناه في بحثنا عن قيامة جماعية أثمن وأغلى وأبهى، ولم نجن من ذلك كله إلا انكساراتنا وإحباطنا المتوالي، وعلينا أن نرى الحياة ومعطياتها بعين مختلفة ونثمنها من جديد:
هُنا حيثُ انكسرَ الأفْقُ
ودّعْنا الذكرىٰ المضيئةَ علىٰ الطريقِ إذْ تحتفظُ بجهدِنا اللامعْ
ومَشيْنا مِشيةَ الأحرارِ
مطمئنِّينَ
بلا عجلةٍ أوْ تأنّي
نُصفِّرُ باسِمينَ
رافعِينَ رؤوسَنا
نُوزِّعُ النظراتِ علىٰ ما أغفلناهُ كثيرًا حوْلَنا
لقدْ تحرَّرْنا مِنْ حيثُ لا ندري
لا شيءَ نخافُهُ
ولا عادَ يُغرينا الأملُ
واتسعتْ لنا دقائقُ المكانِ لنملأَ براحَ الوقتِ بما أهملناهُ طويلًا
***
يأتي المقطع الثاني من القصيدة متساوقاً مع فكرة تخلي الشاعر عن فكرة الصحوة والنهضة الجماعية، حيث رأى سقوط الجماعة، وانهزامها وانكسارها وسقوط أحلامها، وأدرك لا جدوى من المناداة عليها والتمسك بها، ليس تقاعسا منه، ولا نكرانا لجدواها، بل لأن الجماعة بعد سقوطها وانفراط عقدها، أصبحت قيداً، ولم يعد أفرادها يلتقون على هدف، ولا يدافعون عن مصير مشترك، وأصبح كل فرد فيها يسعى لتحقيق فرديته في مقابل فردية الآخر، وبالتالي فالحل هو سقوط الفكرة أو إسقاطها لكي تنهض فكرة أخرى أكثر تأثيرا ربما، تنبني على إرادة قوية تتبناها الروح الفردية، لأن هذا ديدنها منذ الخلق الأول.. التفرد في الوجود.
لكن ثمة تغير كبير حدث بين الرؤية الفردية قبل النهوض (الصعود) الجماعي ورؤيتها بعده، لقد أستيقظت روح الفرد، وهي الآن ترى إلى الحياة بمنظار جواني مختلف، إذ ثمة علاقة عضوية هنا بين السقوط جماعة والقيامة فرد؟ ويطرح النص ضمناً سؤالاً غاية في العمق مفاده: هل يمكن للسقوط الجماعي وإجهاض أحلام الجماعة في تحقيق أهدافها، أن يكون بوابة لصعود أفرادها فرادى؟ وهو سؤال يحيل إلى آخر وينبني عليه: ما الذي يبقى لأفراد الجماعة بعد سقوطها وإجهاض تحررها؟ في الحقيقة يبقى كل شيء.. وهنا جاء المقطع الثاني جواباً لسؤال ضمني يشكل موضوع القصيدة.
يدرك الشاعر أن نهوض الجماعة ما هو إلا دليل على أن الأفراد كسروا حواجز الخوف واليأس والذل، وشعروا عميقاً بحب الحياة وأدركوا معاني جديدة لها، وهذا الإدراك وهذا التحرر الفردي يقع في لحظة سابقة لمحاولة الجماعة النهوض، وهو سبب ذلك، وما نهوض الجماعة إلا دليل على هذا التفتح الداخلي عند الفرد، وعلى التغيير العميق في دواخله، ومع أن صعود الجماعة تم إجهاضه، فلم تستطع تغيير الواقع، إلا أن الأفراد تغيروا، لقد تحرر الفرد داخلياً في اللحظة التي بدأت محاولة الصعود الجماعي، وهو الآن يعيش الحياة بمنظار مختلف وبمعاني جديدة، ولعل سقوط الجماعة هنا أدعى لتعميق وعي الفرد إضافة إلى تعميق تحرره الجواني، فهو الآن يتبع فضاءاته وآفاقه الخاصة، فيبدأ برؤية الأشياء من حوله بطريقة مغايرة، ويكتشف كم الجمال والمعنى حوله، صحيح أن الواقع لم يتغير، لكن الفرد تغير وأصابته حركية الجماعة بصعودها وسقوطها بشغف الحياة، فبدا العالم جديدا، أخاذاً، وعلى ضوء ذلك يمكن قراءة المقطع الثاني من القصيدة «القيامة فرد».
سمت الروح، وتفتح العقل، صار جاهزاً ليرى ما لم يكن يراه قبلا، اتسع الأفق؛ أو تكسرت حوائط التعمية فتبدت آفاق أخرى كانت خفية، لم تعد الجماعة تكبله، تحرر من قيودها المفروضة بصعودها، وتحرر من اشتراطاتها بسقوطها، وعليه الآن أن يتجه لذاتيته وأن يتبع خيط الحياة أينما قاده، أن يعيد اكتشاف الماء والأشجار والكائنات، المتع الصغيرة، دبيب الحياة في الجسد، لم يعد من معنى لسجون الفضيلة الميتة، فللفضيلة تعريف واحد هو الحياة وهباتها وكل ما فيها:
ها هُوَ سريرُ المساءِ يستطيلُ؛
لأراودَ امرأةً عنْ نهدَيْها أخيرًا،
وأشقَّ تفاحتَها نصفَينْ، ليلتئمَ الجسدانِ المُتعبانْ،
وأنفخَ فيها مِنْ رُوحي،
وأهديَها باقةَ وَرْدٍ كُلَّ ليلةْ،
وزجاجةَ عِطْرٍ كُلَّ خميسْ،
وخاتَمًا مُتوَّجًا بالماسِ واللازوردِ في عيدِ ميلادِها.
ومائدةُ العَشاءِ تنبسطُ أطباقُها لشرائحِ السلمونِ المقليةْ،
وشرائحِ الضأنِ المشويةْ،
والفاكهةِ المُستورَدةْ،
وكُلِّ ما أشتهي،
ويَلتمعُ الكأسُ بالنبيذِ الفرنسيِّ الفاخرْ،
وتَلتمعُ الحياةُ في عيني.
***
نعم، فلينعم بدنياه الجديدة، وحياته الرغيدة دونما عبء للمفروض والعادة والمحرم، فكلها ترهات وخدع كان يزينها العقل ويحبسنا فيها، فإن أدرت زاوية الرؤية، رأيت كل شيء بمنظور مغاير فيعطيك من نفسه نكهات مختلفة، بالشحذ الذاتي فقط، تستطيع أن ترى العالم بمنظور جديد، أن تبدع وتكتشف وترى مالا يراه الآخرون:
أخيرًا سأرتِّبُ غرفتي المبعثرةَ أشلاؤها بما يليقُ بدنيايَ الجديدةْ؛
فلا تتحوّلُ إلىٰ أشباحٍ وكائناتٍ وحشيّةٍ في منتصفِ الليلْ.
سأسافرُ،
يقولونَ “للسفرِ سبعُ فوائدْ“
سأسافرُ وأكتشفُ الثامنةْ.
***
عندما تتخلى عن كل قيود الجماعة التي تهاوت، وتنطلق خلف حلمك الفرد، سترى وقتها مقدار ما أعطيت من قوة ومن حرية، وقتها، سيكون لديك متسع من الوقت لبناء صداقات وعلاقات جديدة، لتمنح بعضا منك للمحتاجين، وتهدي بعض روحك للكائنات التي تشاركك الحياة على هذا الكوكب، لتكتشف كم نحن متشابهون، وستترك بصمتك في ديوان تهديه لمن تحب كيما يرى الحقيقة فيك، ستعيش الحياة بكل تفاصيلها، وتستمتع بجمال كائناتها:
سأقِيمُ صداقاتٍ جديدةً معَ البُسطاءِ والفقراءِ والأيتامِ وكبارِ السنِّ وذوي الاحتياجاتِ الخاصةْ، وأحملُ همومَهمْ علىٰ كتفيَّ في الصباحْ، وأسكنُ قلوبَهمْ في المساءْ.
وأوطِّدُ علاقاتي معَ الجيرانْ،
سأُهدي جارتي المُكشِّرةَ أصيصَ زهورٍ يفتحُ في قلبِها شُرْفةً للجَمالْ،
وكتابًا لجاريَ المُقعَدِ يتمشَّىٰ في شوارعِهِ ويتنفّسُ هواءً جديدا،
وجارتي الشابّةُ التي تُسبِّل عينيها كُلَّما رأتْني سأهديها ديواني كيْ تراني.
***
هكذا يحملك محمد غازي النجار على جناح روحه الفردية المحلقة في سماء حريته الجديدة المنطلقة بلا حدود، فيريك كم من جمال وحياة في الحياة التي لم نكن نراها، وكم من سعادة يمكن أن تربطك كفرد بالعطاء، العطاء بلا قيود ولا استثناء، وبالحب أيضا والتفهم لطبيعة كل المخلوقات، فيسرد لك تفصيلا، كثيرا من التفاعلات والتفاصيل والممارسات التي ينتوي فعلها بحياته الجديدة، وهو يعتزم على إقامة الصداقات الحقيقية بينه وبين الكون حوله، فيقول:
سأشاركُ قططَ الشارعِ طعامي، وأتمشَّىٰ معها أوَّلَ الوحدةِ آخرَ الليلِ، وأجالسُها حتىٰ أفهمَ لغتَها، وأسامرُها في المساءِ التالي.
***
سأُنهي ليلتي عندَ الفجرِ بالإصغاءِ إلىٰ سمفونيةِ العصافيرِ علىٰ الشجرِ وفي المَنورْ، وأنامُ علىٰ حكاياتِها الموسيقيةْ.
***
سأنتظرُ هُدهدَ العصاري حينَ يزورُ حيَّنا، وأحاولُ أنْ أستشفَّ منهُ قِصّةَ التاجِ فوقَ رأسِهْ، وحكاياتِه فوقَ الماءْ، وسِرَّ طيرانِهِ في دوائرَ ناقصةْ، رُبّما هُوَ الآخَرُ يسعىٰ للكمالْ.
***
وفراشُ الضحىٰ سيعرفُني وحدَهُ، ويطوفُ حولَ طيفي؛ فالفراشُ شعراءٌ حقّقوا حُلْمَ الجناحَينْ، ألا نرىٰ افتتانَهُ الخالدَ بالنورِ والوَردِ والجَمالْ.
***
سأشتري كِيسَ سُكّرْ، وأذهبُ لمُستعمَرةِ النملِ القريبةْ، وأصنعُ لها بملعقتي تلالًا بيضاءَ ضخمةْ..
***
والجروُ اللقِيطُ الذي وجدتُهُ جوارَ عمارتي، سأشتري حقنةً وأرضعُهُ بها، وأعوِّضُهُ عَنْ غيابِ أُمّهِ، وأتأمّلُ الحياةَ وهيَ تكْبرُ فيهِ والوفاءَ كيفَ ينمو بينَ رُوحَينْ.
***
وعبّادةُ الشمسِ التي أرادتِ الحياةَ؛ فقهرتْ جغرافيا المدينةِ، ونَمَتْ مِنْ تحتِ حافّةِ عمارتي رافعةً رايتَها الصفراءَ فوقَ البلاطِ زاهيةً، سأصوِّرُها وأبصُّ في صورتِها كُلَّما تقمّصَني اليأسْ.
***
لقد أصبح هناك متسع لقيامته كفرد، قيامة تحمل الجمال والتسامح والحب والانفتاح على الكون، ورؤية جديدة لمخلوقاته، فالقطط:
ملوكٌ، هبطتِ الأرضَ لقضاءِ عقوبةٍ مِثْلَنا، وهيَ ألطفُ مِنْ بعضِ البشرِ، وذكيّةٌ كالوَرْدِ، وحسّاسةٌ كالماءِ، ووفيّةٌ إلىٰ أبعدِ حدْ.
والهدهد يسعى مثل كل الكائنات للكمال، والفراش شعراءٌ حقّقوا حُلْمَ الجناحَينْ، مفتونين بالنورِ والوَردِ والجَمالْ.
لذا، أصبح لزاما عليه أن يعيد النظر في حياته فيعلق ذكرياته المتربة على أغصان شجرة صديقة لتمنحها الحياة، ويعيد ترميم صداقاته القديمة فيحييها بمزيد من الاهتمام، ومشاركتهم حتى فيما كان يراه قبلا غير مقنع، وسيتجرأ على ممارسة ما كان يحجم عنه قبلا من سلوكيات لإرضاء الآخرين:
سأعانقُ صفَّ الأشجارِ شجرةً شجرةْ، وأعلِّقُ علىٰ أغصانِها ما تبقّىٰ مِنْ ذكرياتي المُترَبةِ كيْ تتشمّسَ وتنمو. وأُقبِّلُ جَبينَ النخلةِ الوحيدةِ خلْفَ عمارتي، وأزرعُ بجوارِها نخلةً تؤنسُها.
سأقفُ بينَ أعمدةِ النورْ، وأرفعُ ذراعيَّ مِثلَها، وأضيءُ كفّيَّ للحيارىٰ والتوّاقينَ للجَمالْ.
سأرمِّمُ صداقاتي القديمةْ، فأهتمُ بأدقِّ شؤونِ أصحابي، بدءًا مِنْ أنواعِ سجائرِهمْ حتىٰ لعبتِهمِ المفضَّلةِ علىٰ الهاتفْ، سأشاركُهمْ حتىٰ ما لا أحبُّ، وبالطبعِ سأرعىٰ أحلامَهمْ.
***
لماذا لم أدخِّنْ حتىٰ الآنْ؟!
يبدو أنَّ المدخنِينَ سيزيدونَ واحدًا هذهِ الليلةْ،
هكذا، يكون الفرد أكثر حرية وعطاء وجمالا عندما يسمح لروحه بالانعتاق الحقيقي والتحليق في سموات الكون الرحبة.
ومن خلال هذا النص، نتلمس فلسفة الشاعر، ونظرته للوجود والحياة من حوله، وكيف تشكلت رؤيته الخاصة لهذا الواقع من خلال تأملاته فيه وقراءته لمفرداته، ومعاناته وحيرته وألمه الذي يبثه خفيا في كلماته وبين سطور شعره، الذي تميز بثراء المعنى، وبيان المقصد وجمال الصور، ووضوح الفكرة التي تقبل القراءة من عدة زوايا، فهي فياضة متجددة.
وبالوقوف عند فضاءات الخيال والصور الفنية الإنسانية التي تصنع عالما موازيا داخل النص، نجده يزخر بما تحمله تجربة الشاعر من فكر وجمال استطاع أن يقدمه من خلال التعبير المباشر المباغت أحيانا، أو المحلق المدهش أحيانا أخرى، فنجده مثلا، يعبر في مباشرة عن اليأس الدفين رغم ما يحمله ظاهر الكلام من معنى الضد بقوله:
لقدْ تحرَّرْنا مِنْ حيثُ لا ندري
لا شيءَ نخافُهُ
ولا عادَ يُغرينا الأملُ
ثم نراه يصوره بتلك الصورة الدالة على شدة الانكسار بقوله:
هُنا حيثُ سقطتْ أحلامُنا الكبرىٰ وانهزمتْ
هُنا حيثُ انكسرَ الأفْقُ
ودّعْنا الذكرىٰ المضيئةَ علىٰ الطريقِ
ويجمع الشاعر أيضا بين المتناقضات الشعورية في أكثر من موضع، فيخاطب المتلقي بجمل مباشرة تحمل في ظاهرها السعادة واللامبالاة، بينما تمتلئ في عمقها بالخيبة والانهزام فيقول:
ومَشيْنا مِشيةَ الأحرارِ
مطمئنِّينَ
بلا عجلةٍ أوْ تأنّي
نُصفِّرُ باسِمينَ
رافعِينَ رؤوسَنا
نُوزِّعُ النظراتِ علىٰ ما أغفلناهُ كثيرًا حوْلَنا!
هكذا يدخلنا النص بإشكالية الرؤية والحقيقة، لكل أمة رؤية ولكل جماعة رؤية ولكن الحقيقة واحدة، لقد كنا نرى ما نريد، أو ما يُراد لنا، وأصبحنا نرى الوجود بكل غناه.
ذكرني ذلك بحوار طويل بيني وبين الصديق الشاعر السوري وليد الزوكاني حول أحد مقالاته بعنوان “نرى ما نريد”، حيث قال فيه:
“لا ننتبه إلا إلى ما تعودنا أن ننتبه إليه بحكم العادة، نعبر نفس الشارع يوميا ونروح مجيئا وذهابا على نفس الطريق لسنوات طويلة، ولا نرى إلا نفس الأشياء التي تعودنا رؤيتها، لكن لو فكرنا قليلا ودققنا النظر أكثر في التفاصيل، وتعاملنا كأننا نراها للمرة الأولى في محاولة لنكتشفها من جديد؛ سنفاجأ بكم التفاصيل والأشياء التي نراها لأول مرة، وما كانت تلفت انتباهنا قبلا.. كل هذا الوقت كانت هناك، تقف في نفس أماكنها، لكننا نحن لم نكن هنا لنراها بما يكفي، ببساطة، كانت عقولنا ترى ما تريد من مجمل المشهد، وليس ما هو كائن وموجود بالفعل”.
وفق ذلك يأخذنا نص الشاعر ليجعلنا موجوين هنا والآن، نتعاطى مع الموجودات حولنا بعد اتسعت عيوننا وتفتحت دواخلنا، فيستعرض الحياة بدقائقها وتفاصيلها، من علاقات إنسانية وترف ووصف للملذات، مستخدما لغة مباشرة ووصفا يبدو اعتياديا، لكنه ينطوي على سخرية وضياع وإحباط، وعندما ينتقل بالقارئ بثرثرته عن تلك الحياة بتفاصيلها، إلى الحديث عن كيفية مواجهته وعلاجه لهذا الإحباط، نجده يضفر صورا على بساطتها تحمل الكثير من المعاني الإنسانية:
- أحملُ همومَهمْ علىٰ كتفيَّ في الصباحْ، وأسكنُ قلوبَهمْ في المساءْ
- سأُهدي جارتي المُكشِّرةَ أصيصَ زهورٍ يفتحُ في قلبِها شُرْفةً للجَمالْ،
- القططُ ملوكٌ، ألطفُ مِنْ بعضِ البشرِ، وذكيّةٌ كالوَرْدِ، وحسّاسةٌ كالماءِ،
- سأُنهي ليلتي بالإصغاءِ إلىٰ سمفونيةِ العصافيرِ، وأنامُ علىٰ حكاياتِها الموسيقيةْ.
- أتأمّلُ الحياةَ وهيَ تكْبرُ فيهِ والوفاءَ كيفَ ينمو بينَ رُوحَينْ
- سأرمِّمُ صداقاتي القديمةْ
- أضيءُ كفّيَّ للحيارىٰ
- أعلِّقُ علىٰ أغصانِها ما تبقّىٰ مِنْ ذكرياتي المُترَبةِ
- عبّادةُ الشمسِ التي أرادتِ الحياةَ؛ فقهرتْ جغرافيا المدينةِ، رافعةً رايتَها الصفراءَ فوقَ البلاطِ زاهيةً، سأصوِّرُها وأبصُّ في صورتِها كُلَّما تقمّصَني اليأسْ.
نعم، هو اليأس يا صديقي الشاعر، اليأس هو الثيمة الدفينة التي حملت كل التعبيرات من بداية النص حتى آخره على ظهرها ومضت، رغم محاولاتك المضنية أن تصرف ذهن المتلقي عنها.
ولا يفوتنا أن نقف أيضا عند حسن اختيار الشاعر للتعابير والكلمات التي تعبر عما يريد، خاصة تلك المفردات التي هي موغلة في الفصحى وفي المحكية أيضا مثل: المُكشِّرةَ، أصيصَ، أبصُّ، وللقارئ أن يتقصى في النص أيضا ما يتوقف عنده، فجمال اللغة الذي يزين لوحاته الشعرية، تجعل القارئ يستمتع بها ويثمنها.
وأخيرا، إذا كان الشعر فنا متجدّدا، يستطيع أن يطرح جدليته الفكرية على المتلقي، ويثبت قدرته على التأثير وإحياء المعاني الراكدة التي أهملت طويلا، وقد كانت أحد المكونات الملهمة للحياة وبناء الحضارة، والمعرفة الإنسانية، فلزاما على الشعراء خاصة الشباب الواعين الواعدين منهم مثل شاعرنا محمد غازي النجار، أن يحملوا على عواتقهم هذا الأمل، ليشعلوا جمرات النفوس الواعية المثقفة والمؤثرة إيجابا، ويسعون جاهدين لرتق الهوة الفاصلة بين الشاعر والمتلقي، ويأخذوا بيديه في ضباب بات يملأ الأفق حوله بالمدعين المتطفلين على الشعر، وخصوصاً قصيدة النثر، التي ترهلت وحادت عن مقاصدها الجمالية والتعبيرية بفعل الاستسهال والسطحية والبلاهة الأدبية، التي رافقت الكثير من محاولات الشباب، كان القاسم المشترك بينهم فقرهم الثقافي، وعدم إدراكهم لجماليات وخصوصية هذا النوع من الكتابة الشعرية.