اللوحة: الفنان الفرنسي غوستاف دوريه
باب المدخل الحديديّ الكهربائي مفتوح بشقّ صغير تبرز منه ظلمة بهو البناية الأرضيّ، في محاولة يائسةٍ منها لملاقاة ظلام ليلٍ لم يحن بعد في الخارج.
لا شكّ أنّ أحد سكّان البناية تركه مفتوحًا خلال ساعات التَّقنين الكهربائيِّ المسائيّ.
تنفّس ملء رئتيه وشدّ قبضة يديه على حقيبته وكيس الحاجيات القليلة التي ابتاعها في طريق العودة، واستعدّ لصعود أدراج الطّوابق الأربع. هو كان متحسّبًا لهذا الأمر فقلّل من المشتريات ليخفّف من الوزن ومن التّكلفة، في ظلّ هستيريا ارتفاع أسعار السّلع الأساسيّة دون حسيبٍ أو رقيب، في زمنٍ بات فيه التّاجر آمرًا ناهيًّا يُبدِع في الإحتكار وفي اقتناص المكاسب من كلّ حدب وصوب، فأصبحت تجد فرق سعر السّلعة عينها مضاعفًا في الوقت عينيه في متجرين متلاصقين.
بهو البناية مظلم وصمت العصر يغلف حنايا الرّدهة.
ركّز السّماعة البلاستيكية على أذنه بعد أن مسحها بالمُطهر تحسّبا لمخابرات المرضى العشوائيّة بعد السّاعة الخامسة مساءً.
صحيح أن الكثيرين منهم لا يجدون حرجًا في مهاتفته خلال ما يجب أن يكون وقت راحته البشريّة، وذلك لطرح سؤال كان أمضى نصف ساعةٍ بالإجابة عنه في العيادة قبل يومين ولكنّ والدي المريض يريدان أن يتأكّدا… أن يتأكّدا ممّاذا؟… هذا ما لم يعرفه يومًا. ولكنّ هناك مرضًى يهاتفونه لطارئ فعليّ فلا يجوز له أن يظلم هؤلاء بسبب قلّة دراية أولئك.
تنهّد ملء رئتيه وصعد الدّرجة الأولى وهو يتمتم “الحمد لله على كلّ شيء”.
كانت الدرجة الخامسة من السّلم الأوّل بداية المخابرات المسائيّة.
عرف الرّقم وأخذ تنهيدةً أعمق من الأولى، فهذه السّيدة لا تأخذ من وقته عبر الهاتف ولو في وضح النّهار، إلّا في الحالات الطّارئة حقًّا
- “مسا الخير يا دكتور، وحياتك لا تواخذني…” طالعه صوتها بسيل الاعتذارات الاستهلاليّة التي تنضح من قلبٍ صادقٍ لم تشوّهه أخلاق المدينة… وختمت “بس ما بقى عندي إلّا أربع حبّات دوا لإبني ومش عارفة شو لازم أعمل”
- أيّ دواء تقصدين؟
- دواء الكهرباء الذي تعطيه لإبني لم تبق عندي سوى ٤ حبات
- كيف يعني خلص الدوا يا بنتي؟ ألم أنبهك مرارا إلى خطورة إيقاف هذا الدواء فجأة؟ أجابها بحدّةٍ وهو يتوقّف ليلتقط أنفاسه عند ردهة الطّابق الثّاني.
- – “بعرف يا دكتور بس إنت شايف مصايب البلد والله برمت كل صيدليّات المنطقة وما لقيت ولا علبة! صرلي جمعة عم فتّش وحياتك”.
كانت تنطق بالصدق فالمأساة الاجتماعية والحصار المفروضين على عامة الشعب كانا قد بلغا مدى غير مسبوق من الشراسة. فجأة حدث الانهيار واختفت الأموال من البلد وكأنها لعبةٌ من ألعاب الخفّة الاجتماعيّة البارعة.
كان يعي واقع التقلّب الانعطافيّ المتواتر لخطّ التّاريخ في وطنه على مدى السّتّة آلاف سنة الماضية، وقارئ التّاريخ لا يحتاج إلى مشاهدة البرامج السّياسيّة ليستشرف المستقبلين، القريب والبعيد.
هو كان يحرص على وضع خطة طوارئ لكلّ مريض يتناول علاجًا مزمنًا وإن بطريقة غير مباشرة وذلك عند المباشرة بإعطاء هذه الأدوية.
- “هذا دواء صرع يا ابنتي وكنت نبّهتك أنّه في حال فقدانه يجب إيقافه تدريجيا من خلال وضع دواءٍ بديل، وكنت نبهتك على ضرورة الإنتباه عند الوصول إلى الحبات العشرين الأخيرة، والمسارعة لإبلاغي لنقرّر كيفيّة إيقاف الدّواء وفق نتائج آخر فحوصاتٍ نكون وصلنا إليها”.
- – “إنت شايف شو صاير بالبلد وكيف عم نتبهدل يادكتور” أجابته والعبرات تخنق عباراتها.
هو كان الذّلّ بكلّ وحشيّته.
منذ ما يربو على شهرين بدأت الأدوية بالإختفاء من السّوق. توقّف وكلاء شركات الدواء عن تسليم الصيادلة إلا النذر اليسير من حاجاتهم بانتظار رفع سعر الدواء إلى ما يناسب المستورد الأساس٠ أصبح الصّيادلة في واجهة مشكلة تأمين الدواء للمرضى الذين تبعوا غريزة البقاء وشرعوا بتخزين الأدوية في المنازل فبادروا إلى شراء هذه الأدوية دون الحاجة حتى إلى تلك الوصفة الطّبيّة الموحدة التي لم تقم يوما بواجبها في الحد من وصف الدّواء عشوائيا في مجتمع منفتح على كل أشكال الممارسات العلاجية التي ينبع معظمها من مفاهيم الشعوذة.
- “وهل بحثت عن الأدوية المعادلة البديلة؟” أكمل وهو يرتقي ببطءٍ الدّرجة الأولى من سلّم الطّابق الثّالث” أنت تعلمين أنني أكتب على الوصفة التي معك تركيبة الدواء وليس اسمه التّجاري فقط، ولا أضع علامة الNS كي يقوم الصيدلاني بالاستبدال عند الحاجة
- عرض علي الصيدلاني علبة دواء شبيه ولكن بجرعة ١٠٠ ملليغرام عوض ال ٢٥ وابني يأخذ ربع حبة ال25 كما وصفت يا دكتور
- – “إشتري تلك العلبة”، بادرها مسرعًا عند سماعه هذه العبارة، “وعليك أن تقومي بتذويب ربع الحبة في٤ ملليمترات من الماء وتعطين ميلليمترا واحدا كل ثمانية ساعات”
- – “أكيد بيسوى هيك يا حكيم؟” سألته بقلقها المعهود “يمكن ما تنقسم الحبة معي متل ما لازم، ويمكن أن يبقى من الدواء على أطراف الوعاء بعد التذويب”
- – “عليك أن تسيري أمرك حتى الحصول على الدواء أو علي القيام باستبداله” أجاب وهو يحاول الحفاظ على نبرةٍ هادئةٍ قدر المستطاع
- وين بعد بدي فتش يا دكتور؟
- هل جربت أن تسألي خارج بيروت؟
- وكيف بدي أوصل يا دكتور؟ ليش في بنزين؟
راجعته صورة انتظاره في طابور السيارات الطويل أمام محطة المحروقات هذا الصباح.
ساعة ونصف ساعة ليسمح له عامل المحطة بالحصول على بضعة ليترات قبل ينزع الخرطوم من فوهة خزان السيارة.
كانت تلك إحدى جوانب الحصار الأخرى التي بدأ المواطن غير المتحزب بالاعتياد عليها. طريقة قديمة في إذلال المواطن تم استعمالها في حرب الميلشيات سابقًا وفي بداية الأزمة الحالية
- إذا لم تعثري على الدواء مع نهاية الأسبوع يجب أن أعاين ابنك حتى أغيّر الدّواء تدريجيًّا
- – “يعني بدنا نرجع نعمل تخطيط؟” كان سؤالها المنطقيّ
- بعد الانتهاء من الارتفاع التدريجي بالدواء كالعادة
- – “وكم أصبحت تكلفة التخطيط؟” سألته بعد تنهيدةٍ طويلةٍ بدت وكأنّها خارجةٌ من أعماق رئتيها
- – “لنوصل إليها منصلي عليها يا بنتي” أجابها محاكيا تنهيدتها بأخرى أعمق منها هو يعي جيدا تلك المشكلة، فمعظم الجهات الضّامنة لم تعدل أسعارها ومعظم المستشفيات صار يرزح تحت وطأة الأزمة كأيَّة مؤسَّسة أخرى مما استلزم رفعًا في تكلفة الإستشفاء.
- – “على قولتك! ان شالله يخلونا عايشين لوقتها” قالتها قبل أن تقفل الخط بأدب بعد أن استأذنت وأكثرت في الاعتذار على إزعاجه بعد نهار العمل الطويل.
أغلق هاتفه وضغط ثانية على زرّ الكهرباء ليضيء بهو الطابق الثالث المظلم، فلم يضئ النّور.
التّقنين لم ينتهِ بعد، نظر جيِّدًا إلى حيث يطأ الأرض وصعد الدّرجة الأولى من جديد نحو الطّابق التّالي وهو يقول من جديد “الحمد لله على كلِّ شيء”.