هل نعود؟

هل نعود؟

أمل بشير

اللوحة: الفنان الأمريكي جورج بيتر ألكسندر هيلي 

وضعت رأسها على وسادتها بعد يوم طويل. نظرت لوسادته الخالية، مدت يدها تتلمس مكانه في فراشه، تذكرت يوم رأته اول مرة لم يلفت انتباهها كان شخصا كسواه. لم تظن يومها انه لن يكون كذلك.

طارق، هكذا أشار إليه عمر، وأردف انه صديقي المرح الذي يستطيع اضحاك الحجر، لم تعلم أنه رغم مقدرته على اضحاك الجميع سيفشل أن يسرق منها بعض الضحكات، بل وسيكون سبب كل الدموع.. هكذا تعرفت على طارق المضحك، في ذلك اليوم بدأت حكاية لم تعلم هي أنها ستبدأ. كان طارق شابا معتدل القامة اسمر اللون. ذو عيون حادة حين نظر إليها احست انها اخترقتها. الغريب انه كان ذو تعابير كقناع بلا ملامح، فهو من أولئك الأشخاص الذين يلقون بالنكات ويحولون كل حوار لفكاهة دون أن تضحكهم نكاتهم وفكاهاتهم ولا حتى ضحكات الآخرين..وكانت هي، سهى أخرى غير التي عاشت ترتدي ملامحها في السنوات الثلاثين الأخيرة. فقد كانت مرحة، كانت تلك الشعلة من السعادة. كانت تشعر أنها تملك الدنيا بقبضتها. لطالما شعرت أن تلك النجمات لا تنافسها بريقا. وان الشمس ليست مصدر الضياء الوحيد كانت تثق أن الضوء ينبثق من اعماقها ليطغى على أشعة الشمس أو يزيدها ضياءً. كانت تؤمن باليوم وبالغد وبكل يوم، تراها جميعا في أبهى حلة، فاليوم جميل وغدا جميل وكل لحظة من الحياة هي جميلة، لم تظن أن الحزن والظلام قد يخيما يوما على روحها أو أن تشعر أن كل الايام كئيبة. لم تعتقد ولو لوهلة أن تلك الشعلة وكل السعادة قد تنطفئ لتغدو كتلة ثلج بلا لون أو نكهة تعكس سواد اعماقها وتجعل الأجساد تقشعر من برودتها، كانت ترتدي قناع الفرح والضحكات لتمنع الآخرين من التسلل إلى صندوق أسرارها الذي خبأته بمنتهى البراعة.

جلست على فراشها مرة أخرى، حملت وسادته في محاولة لتذكر رائحته. فقد شعرت انها لم تنس فقط ملامح وجهه وإنما رائحته رغم ملازمته لها طوال ثلاثين عاما الماضية. حتى هذا اليوم الذي اختاره فيه الموت ليرحل ويتركها بلا أي ذكرى منه. شعرت بالكثير من تأنيب الضمير فهي لم تذرف ما يكفي من الدموع لتودع زوجها ووالد ولديها. هل يعقل أن تنساه ولم يمض على غيابه الا ليلة واحدة؟

وجدت نفسها تلقي بوسادته كأنها لا تريد أن تذكره. لقد سرق طارق الثلاثين عاما الماضية. اغتال الفرحة فيها وبدل الضحكات لتكون مجرد صدى لروحها الخاوية من الفرح. كل تلك اللحظات الجميلة التي منعها من أن تعيشها. كل كلمات العشق التي استحقتها. كل الثناء الذي ما حصلت أبدا عليه. ربما اليوم نهاية تلك المرحلة من الإحباط والموات العاطفي ربما اليوم قد تمزقت تلك الشرنقة التي لطالما حبسها فيها. وكسرت كل القيود، اليوم بات بإمكانها أن تملأ صدرها بهواء لا يلوثه تسلطه وقسوته. اليوم أصبح بإمكان قلبها أن يمنح نبضاته لمن يبادله العطاء، ربما لن تحصل على الحب الذي كان دوما حلما بعيد المنال. ربما لن تكون السعادة بانتظارها كما تمنت، ولكنها تشعر أنها اخيرا استعادت نفسها من أسر الزواج برجل لم يكن سوى شريك في السكن. تخلصت منه اليوم فهي لم تحب مشاركته ولم تألفه رغم السنوات، عاشت محرومة من السكن الذي شغله هو لسنوات دون أن يحاول حتى أن يجعله سكنا حقا، وتلك المودة التي ذكرها خالق البشر لم تفهم معناها في حضنه يوما.

مررت يدها على خصلات شعرها الذي ألبسته الكآبة والسنوات لونا غير لونه، وعاش محروما أيضا من لمسات كان يتوق إليها لتهدئ من رغبته في أن يكون مرئيا، فكت خصلاته المربوطة، قامت ونظرت في المرآة كانت تلمسه كأنها تقدم اعتذارها له عن كل الإهمال، ثم مررت يدها على تفاصيل وجهها. كل تلك الأخاديد التي استعمرته متى تراها سكنته؟! وكيف لم تلحظها؟

تلمست جسدها الذي لطالما كان ممشوقا متناسق. ذلك الجسد وتلك التضاريس التي نسيت حتى لم هي موجودة. كأنها قد رحلت عنه وهجرته، ولكنها اليوم عادت لتستجمع شتاتها وتعود تلك السيدة الواثقة الجميلة. كم تستطيع الحياة أن تبعدنا عن قلوبنا أرواحنا أجسادنا

كم تستطيع أن تشوهنا وتمسخ ملامحنا حتى لا نعود نعلم من نحن؟؟ من كنا؟؟ كأنها عادت من سفر طويل لأرض لم تعرفها.

طارق ذلك الرجل المضحك سلبها ثقتها بإهماله. سلبها ضحكتها بتهكماته. سرق فرصتها في الحب بجفافه، لثلاثين عام مضت لم تستطع رغم علمها منذ بداية زواجها انها أخطأت الاختيار، الا انها لم تستطع الخروج منه أو الهروب من الاختيار الخاطئ. بقيت تمشي دربها بجواره، على أمل أن تشعر ببعض من الأمان والطمأنينة، قليل من الحب، وبضع لحظات من سعادة، ولكن هذا لم يحدث. 

ثم جاءت تلك العقبة الاجتماعية، فقد تقدم بها العمر، كيف قد تجرؤ على التوقف والعودة؟ كيف يمكنها أن تبحث عما تفتقده في مكان آخر؟ ثم كبر الأبناء يا للهول هي مطالبة أن تبرر لهم سبب رحيلها، لم لم يستطع والدهم أن يكون السكن والرحمة والمودة؟ كان عليها أن تجيب عن كل الأسئلة المطروحة والتي تخفيها القلوب فتكشفها العيون.

قبل عام مضى بدأت تشعر بتلك الحاجة الملحة لصدر يحتضنها تقضي ليلها وهي تضع رأسها عليه، بدأت تحاول أن تشعل بعضا من البرود بينهما. حاولت مرارا أن تخبره كم تحتاجه حبيبا. لم يلتفت لتوسلاتها لم ير ذلك البريق يوما بعينيها. لم يستطع ابدا ان يقرب المسافة التي كانت تزداد وتلك المشاعر التي تزداد برودة حتى ماتت تماما ولم يعد لها أثر. دفنت تلك المشاعر دون أن تضع شاهدا على قبرها طمرتها بعيدا حتى الذكرى لم ترغب بها.

تبسمت وزادت خفقات قلبها عندما تذكرت انه رحل بلا عودة. ثم اقتضبت هل يعقل أن يكون رحيله مصدر ابتسامات عندما لم يكن وجوده يوما سببا للسعادة؟ يا لهذي المشاعر المتضاربة، صراع بين ما يجب أن تشعر به وما تحسه حقا، لكنها نظرت لصورتها بحسم كأنها تنهرها: مم تخجلين؟ يبدو أن القدر أراد أن يفتح لك بابا جديدا للحياة. أيعقل أن تعود سهى القديمة لتسكن هذا الجسد من جديد؟

ربما أن اليوم هو إجابة لكل التساؤلات، نهاية لكل حيرة، خطوة جديدة في طريق قد تحفه السعادة، فوداعا لمن كان سبب الأحزان وبيده صنع معظم الجراح، وداعا لأيام ذرفت فيها الدموع وما كان الليل سكنا، وداعا لكل القيود فاليوم عادت حرة. هي اليوم طير سيتعلم الطيران من جديد سيهاجر في موسم الهجرة ويعود في موسم العودة، ستشعل تلك الجذوة تحت الرماد لتشعل كل ما أطفأته رياح الإحباط. رحل طارق لتعود هي للحياة، وستفعل بالتأكيد.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.