الناّدلة

الناّدلة

نبيلة يحياوي

اللوحة: الفنان اليمني عبد الفتاح عبد الولي

كانت هالة من الجمال، عيون ثاقبة تغزو أرجاء الجسد التّائه في أغواره، ينسج خيوطا رقيقة من الألم كرقّتها ونعومتها، قلّما يراه البعض، شَعرٌ منسدل كالحرير، وقامة طويلة تمشي بخطى تغزل الأحزان في كلّ خطوةٍ من خطواتها، وتكبر كالمدن العريقة، كالقصور، وملامح جميلة منكسرة ذابلة، من وهن الزّمن، تتمايل جمالاً تارةً، وتارة أخرى ترفسها الآلام فتستسلم، كسيرة كغصن ذابل توقفّ فجأة عن الحياة، لم تكف ألسنة الناس من نهش روحها البريئة، بسخرية وتهكّم، كيف لامرأة أرملة أن تكون نادلة في مطعم فاخر؟ تتأخر بالساعات لآخر الليل؟ كيف لامرأة فاتنة أن تقاوم هذا الانغلاق الذي أصبح يهتم بالظاهر وينسى ما هو أنقى وأجمل من ذلك٠

(الزّهرة)، هذا اسمها كزهرة فواحة تروي الظمآن بجميل كلامها وأدبها، أراد الله أن تبكي طويلا بعد وفاة زوجها، قصّة حبّ لازالت على مسامعنا، أحيانا نشكك أنهما اثنان، قلب ونبض واحد، بقيت على ذكراه منذ خمس عشرة عاما.

 تقصد (الزّهرة) المطعم كعادتها غير مبالية بمن حولها، تكدّ وتعمل، وكان بالمطعم قصة أخرى؛(سي سليمان) نلقب بسي للرجل المسنّ الغريب احتراما له، عاد سليمان من أشلاء الذكريات بعد أن هجرته زوجته وقد سلبته معظم ثروته وأملاكه، فاتّخذ العزلة والانطواء، مع ريشته التي كانت الخليلة والرفيقة، حتى بدأ الناس يلقبونه بمجنون، كانت الريشة الوحيدة التي يصمم بها حياته الصّعبة، لاجئا إلى عالم متفردّ يأخذ ذكرياته إلى اللامنتهى من سرمدية الوجود لكن ما من أحدٍ تجرأ يوما ليسأله عن حاله وشقائه لأنّ الصورة أحيانا تنوب عن الكلمات، وتتعدّى حدود المفردات؛ كان -سي سليمان-يراقب -الزهرة- في حركاتها وميلها وهدوئها كل ّيوم، وفي المساء يترجم هذه الثورة في لوحات ويصممّ حسّها، ورقّتها، يقوم بذلك كل ّيوم تقريبا ويحتفظ بأعماله لنفسه ويكتب التواريخ ّوالأحداث بدقّة. وبين حياة -الزّهرة- وحياة -سي سليمان- مقدار شبر واحد، الاختلاف الوحيد أنّ بعض النظرات للزّهرة أقوى من لسعة النار، امرأة توشك أن تتحطم كلّ مرةّ بفعل الذهنيات العقيمة، والضحية -سي سليمان- شيخ هرم من الألم والتجاعيد توحي بالنّهاية، ومرض مزمنٌ أنهك قواه وجسده على حدٍ سواء، تمر الأيام، وتليها الشهور والأعوام ويختفي -سي سليمان من المطعم لمدة، طبعا لن ينتبه الناس لذلك لأنه مجرّد عجوز أقحم نفسه في عالم العقلاء. إنما -سي سليمان-كان يصارع الموت، لمدّةٍ طويلة في المستشفى وتنتقل روحه إلى بارئها بعد صراع مرير بداء تضخم القلب؛ عن عمر يناهز السبعين. وفي المطعم -يأتي طرد- للزهرة- طرد من غير عنوان، حتى أنها لم تكن فضولية لفتحه، ستنتظر إلى آخر الليل وبالمنزل من عساه يكون؟ فور وصولها المنزل تفتح الطّرد، مجموعة من الصّور، عليها تواريخ وأحداث: “اسم النّادلة النادلة جميلة لكنها حزينة، اليوم تأخذ كوبا من الشاي، النادلة تميل يمينا وشمالا أعياها اليأس، آلامها أكبر من الاحتمال، امرأة شريفة، وجه كالملاك لكنه يائس وهكذا كان -سي سليمان- يصفها في كل لوحة ترسمها أنامله، في كل يوم منذ وطأت -الزهرة -المطعم كان يرسمها بريشته، وفي رسالة أخرى صك بمبلغ من المال مهدى للزهرة، ويعبر بجملة بسيطة للنادلة (ابدئي من جديد) والتوقيع: من طرف -سي سليمان-صاحب الريشة- حينها تهاطلت الأسئلة دفعة واحدة، من هو -صاحب الريشة، هل كان يعرفني، لم كان يرسمني! لماّ سألت عنه سمعت كلمة عجوز مجنون، استطاعت -الزهرة -أن تعود بذاكرتها للوراء لتأتي بصورة العجوز: كيف لمجنون أم يفهم هذا الانكسار لامرأةٍ، لم يحدّثها ولا يعرفها، يأتي بالحياة جديدة ً لقلبها، تحتضن قلب -الزّهرة- وهو لم يحصل يوما على حياة كأنها حقيقة تمزقت بفعل الاحتدام الناتج من الحقيقة نفسها، ألسنة الناس لن تتوقف -سي سليمان-كان يعشق -النادلة- العجوز كان يتظاهر بالجنون، النادلة كانت على علاقة به، الحقيقة ماتت بموته، إن كان حبا فقد كان طاهرا ًروحيا إنسانيا، إن كان شفقة فهو أرحم من أناس لم يرحموه يوما فحتى الحجارة تتناثر وتتكسر وما بالك بالقلوب. وهو ميلاد حياة جديدة للنادلة أخذت بفكرة -سي سليمان-مشوارا آخر في حياتها أرادت أن ترسم طريقا جديدا، وبالمبلغ المالي فتحت مركزا للمسنين لحد الساعة، لكنها ظلت تردد دوما زوجي منح لي الحب، أما -سي سليمان-منح لي الحياة، ولن تنسى أجمل ما دفعها لتعانق الحياة من جديد بعد قراءتها الرسالة: (ابدئي من جديد). 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.