اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله
الدين عند الله الإسلام.. والقرآن كتاب عربي غير ذي عوج.. والله متم نوره ولو كره الكافرون.. فالعربية على ذلك، باقية ما بقي القرآن، والقرآن باق ما بقيت السموات.
تلك –عزيزي القارئ- مسألة فرغ الله منها، وأعطى عليها كفالة غير محددة المدة، وإذن، فكل ما يراد به أن يحل محل الإسلام، أو يحل محل الفصحى التي نزل بها القرآن، إنما هو عند التأمل كبرٌ ما هم ببالغيه!!
هذه –عزيزي القارئ- مقولة نود إهداءها ابتداءً، إلى هؤلاء الذين يحاولون أن يطوروا (!!) الدين واللغة والشمس والقمر، على حد عبارة شيخ العربية مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.
ثم نود إهداءها بالأصالة، إلى الغيورين على الإسلام والغيورين على الفصحى، لا على سبيل العلم، فهم يعلمون من ذلك أكثر مما نعلم، ولكن على سبيل التواصي بالحق والتواصي بالصبر، حتى لا تُفهم فكرة “الاطمئنان” الناشئة عن “الكفالة” الإلهية تلك، على غير وجهها، فيحدث نوع من التواكل إن لم يكن هو، وبذلك تضيع الأمانة الأصلية، وهي مناط التكليف، اعتقاداً من البعض أن اللغة محمية من الخالق، فلا حاجة إذن لإعادة حمايتها من المخلوق، لأن هذا تصور لا يثبت عند التأمل على شيء، إذ إن التكليف بحماية حرمات الله قائم في رقاب المكلفين، لا يسقط بحال، ثم هم يتفاوتون بعد ذلك عند الله والناس في منازلهم، على مقدار النهوض بالمهمة، فإذا انتفى التكليف أو كفروا به، تولى الله بنفسه حماية حرماته في الأرض، والتاريخ يحتفظ بهذه الحقيقة الساطعة، وقد سجلتها سورة “الفيل”، إذ أرسل الله سبحانه على أبرهة وجيشه حجارة من سجيل جعلتهم كعصف مأكول، لأن تلك الظروف لم يكن فيها يومئذ، من هو مكلف بحماية البيت الحرام، وقد كانت إجابة “عبد المطلب ابن هاشم” المشهورة، تلخيصاً جيداً لهذه الفكرة، إذ أزال دهشة “أبرهة”، حين أخبره بأنه غير مسئول إلا عن حماية إبله التي استاقها جيش أبرهة، وأما البيت، فله رب يحميه، وهو ما حدث فعلاً إذ كان الناس حينئذ أهل فترة، وليس هناك أمة مكلفة بحماية حرمات الله، فكان من أمر أبرهة ما علمنا، ولنا أن نتذكر أن البيت الحرام نفسه، تعرض لمحنة شديدة في بدايات العصر الأموي مثلاً، إذ هدمه جيش بني أمية فوق رأس عبد الله بن الزبير وأصحابه، وضربوه أياماً بالمنجنيق في أحداث تاريخية معروفة، فلم يحدث ما وقع لأصحاب الفيل، وباء بإثم الحرم المحترق عندها من باءوا، فالأمة ها هنا مكلفة بمهمة، نهض بها من نهض، وقعد عنها من قعد، والأمر يومئذ لله.
وعلى هذا، تصبح قضية حماية العربية الشريفة –عزيزي القارئ- شأنها الآن، شأن كل قضايا الأمة، رهناً بهؤلاء المكلفين، فهي مسئوليتنا التي نلقى الله عليها يوم ينادي “وقفوهم إنهم مسئولون”، ثم يظل الأمل معقوداً أولاً، على همة الغيورين على الفصحى، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم حولها، فماذا يمكن أن يصنعوا الآن إزاء المشكلة، والواقع هو ما نعلم؟
أتصور أن أول ما نبدأ به هو أن نظهر شعوراً حقيقياً وكافياً، بمعاناة غير المختصين، وهذا الشعور له مظهران مهمان جداً، أولهما أن نتوقف فوراً عن السخرية بهم أو الاستعلاء عليهم، أو تضخيم عقدة الشعور بالنقص عندهم، إذ إن ذلك كله وما شابهه أقرب إلى تكريس المشكلة وتعقيدها.
وأما الآخر، فهو أن نترجم شعورنا الحقيقي والمتواضع بمعاناة غير المختصين، إلى خدمات لغوية حقيقية، يشتد بها إيماننا نحن أولاً دون طنطنة، حتى يمكن أن ينتقل هذا اليقين إلى كل من يهمه الأمر، فيقبل عليه وعلى أصحابه في ثقة.
وأتصور أيضاً، أن تلك الخدمات اللغوية الحقيقية، يجب أن ندفعها في اتجاهين أساسيين، خدمات من خارج اللغة العربية، وخدمات من داخل اللغة، وسوف يتخذ كلاهما مظاهر كثيرة، منها:
- رفع درجات اللغة العربية في مستويات التعليم العام المختلفة، وتركيز الاهتمام على مهارة التعبير الشفهي والكتابي، وعلى فن القراءة والتلخيص.
- تخصيص درجات في كل مقرر يدرسه التلميذ وفى جميع التخصصات، لصحة الصياغة ودقة الأسلوب، وإلزام مدرسي المواد الأخرى بالتدريس بالفصحى، حتى ينمو التلميذ في بيئة لغوية سليمة داخل المدرسة.
- تركيز الاهتمام من جديد على نظام الكتاتيب والتوسع فيه، وصرف مكافآت مجزية لمحفظي القرآن الكريم وللجيدين من التلاميذ، واشتراط ألا يتخرج التلميذ من المرحلة المتوسطة إلا بعد الانتهاء من حفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم، لأن الغرض هنا هو تدريب التلميذ على النص بوصفه لغة بالدرجة الأولى، لا بوصفه ديناً، ولنتذكر مثلاً أن المحامي المسيحي الشهير “مكرم عبيد” كان يحفظ القرآن، ويترافع به في المحكمة في لغة عالية الجودة حتى اشتهر بذلك في ساحات العدل.
والغرض من ذلك كما هو واضح، تمكين ملكات التلميذ اللغوية عبر نص هو في ذاته معجزة لغوية مدهشة، تمثل خلفية شديدة الثراء، يدرس على أساسها النحو والصرف والبلاغة وما شئت من مهارات اللغة، لأن تدريس هذه المهارات في غياب خلفية لغوية محترمة كهذه، يشبه أن تعلم شخصاً فن بناء الجدران وهو لا يملك معرفة بكلمة، “حجر” أو “بلاط” أو “لَبِن”، أو “فأس” إلى غير ذلك من لوازم المعمار، والذي يحدث الآن هو أن مدرساً مصنوعاً بغير دقة، يجلب للتلاميذ في النحو، أمثلة مصنوعة بغير دقة، لا فكرة فيها ولا جمال، فيبدو النحو عندهم وهو سوط عذاب، ثم تنسحب الدعاية السيئة تلك، على العربية كلها وهي – علم الله – براء من أخطاء معلميها وخطاياهم الفنية.
- تعميم تدريس اللغة العربية في جميع الكليات والمعاهد، ودفع الأمر بجدية تكفي لإشعار الطالب بأنه لن يتخرج إلا وهو يحسن لغته الأم.
- إعادة النظر فوراً، في صحيفة تخرج مدرس اللغة العربية بحيث يكون التركيز على مواد التخصص والإملاء والخط والإلقاء، وجودة التعبير.
- الاهتمام بتحسين أوضاع المدرسين، ومحاسبتهم بحسم وسرعة، وربط نظام الترقيات والمكافآت باجتياز دورات تدريبية متصاعدة المستوى يختبر فيها المدرس لتمييز أصحاب الكفاءات من أصحاب الانكفاءات.
- إنشاء جمعية من جمعيات النفع العام باسم “منظمة حماية اللغة العربية” أو “جمعية محبي الفصحى” أو ما شئنا من أسماء مناسبة، ينتمي إليها كل من يوقن بنبالة هدفها، وهذه الجمعية تقوم بنشر الوعي بأهمية اللغة في بناء الإنسان، وتقدم النموذج اللغوي الراقي في حديث أعضائها وكتاباتهم وخطوطهم وحفظهم للنصوص العالية، وقدرتهم على الخطابة وإسهامهم بمقدرة وإخلاص في حل مشكلات بيئتهم، وتنتشر هذه الجمعية في المدارس والجامعات والنوادي وتجمعات الشباب، وتركز على أن ترتفع بلغتها عن الحذلقة والتقعر، وهي تنشر اللافتات بحب الفصحى واحترامها ومطالبة جميع أطراف العملية التعليمية من المدرسين والطلاب بالتحدث بها والتدريب عليها، وتقديم الجوائز وشهادات التقدير لمن يحسنون التعبير بها في أناقة وجمال.
- العودة إلى استعمال الأرقام العربية التي يظنها البعض لاتينية، في كل الكتابات وعلوم الرياضيات، واستعمال الحروف اللاتينية في المعادلات الكيميائية أو الرياضية بوصفها رسماً، لا بوصفها دلالة لغوية.
- إفساح المجال بلا حدود لإعادة استعمال الألفاظ الفصيحة الموجودة في اللهجة العامية، لأن هذا من شأنه أن يثري الفصيحة من مصدر قريب من المتحدثين.
- السماح بمرونة تكفي لنحت ألفاظ جديدة غير موجودة في جذر المادة الفصيحة، كالخصخصة والعولمة والتمصير والتكويت وغيرها.
- إبراز الجهود الناجحة التي أثبتت كل يوم، قدرة اللغة العربية على استيعاب منجزات العلوم الحديثة وتشجيعها، لأن اللغة لا تكون فاعلة في العالم، إلا حين يكون أهلها فاعلين في العالم، ولنتذكر أن أطفال الحجارة فرضوا على معاجم العالم كلمة “انتفاضة” كما فرض الشيشان كلمة “مجاهدين” إلى غير ذلك.
- استثمار الإمكانات العالمية التي أتاحتها ثورة المعلومات الحالية وتوظيف الخبرات العربية والإسلامية المتاحة، وقد بدأت الحركة بالفعل وعلى المستويات المختلفة الممكنة، فهناك مثلاً، مشروع كبير يساهم فيه معهد بحوث الإلكترونيات المصري ومعهد التعريف بالرباط في المغرب، والمعهد الإقليمي للعلوم الإعلامية والاتصال عن بعد بالمغرب أيضاً، ويشارك في المشروع من الجانب الأوربي جامعة “نايمخن” في هولندا والمكتبة العليا لعلوم الإعلام من فرنسا، والهدف من المشروع هو “البرمجة الآلية” للكلمات والجمل العربية، ومعالجتها نحوياً وصرفياً تمهيداً لوضع معاجم للألفاظ العربية وما يقابلها من الكلمات الأوربية لتيسير الترجمة الآلية، وهذا الهدف يتحقق –كما يقول الدكتور “جوزيف ديشي” الأستاذ بجامعة “ليون” الفرنسية، من خلال وضع بنك للنصوص، أي قاعدة معلومات نصية تحتوي على ما يقارب عشرة ملايين كلمة في المرحلة الأولى، تضاف إليها نحو أربعين ألف كلمة يعالجها حالياً بدقة، معهد البحوث الإلكترونية في مصر، وفي هذه القاعدة المعلوماتية، يوضع لكل جملة جميع المواصفات المطلوبة للمعالجة اللغوية، إلى جانب واجهة استخدام تساعد المستخدم على اقتباس المضامين الموجودة في القاعدة، بالإضافة إلى تحليل نحوي وصرفي ودلالي للكلمات التي تكون بنية الجملة وبنية الجمل ككل، أي بوصفها نصاً.
ومن المسعد –والكلام للدكتور جوزيف- أنه أمكن الحصول على نظام آلي متكامل لدراسات النصوص العربية، سيستفيد منه الباحثون وواضعوا المعاجم، من خلال الاستفادة الكبرى بوسيلة عصرية هي الكمبيوتر، مما سيمضي بالبحث اليدوي إلى الذاكرة العميقة للتاريخ، كما يستفيد من المشروع الأشخاص العاديون الذين يتعاملون مع اللغة، ونتصور أن أمثلة مضيئة ستظهر عما قريب في الساحة العربية والإسلامية إن شاء الله.
- في المرحلة الانتقالية، يجري الاهتمام الشديد بالتأليف ثنائي اللغة في مجال العلوم، حتى يسهل التحول إلى اللغة العربية دون مشكلات كبيرة يتذرع بها البعض، ولعله من المفيد كثيراً في تسريع التحول، أن تربط ترقيات أساتذة الجامعات باختبار في اللغة العربية، أو بحث يقدم أو بمحاضرة تلقى، أو بهذا كله، بصرف النظر عن ارتفاع الأصوات الغاضبة من الفكرة، وهذا الاقتراح ليس من عندي، بل هو للدكتور يحيى الرخاوي أستاذ الجامعة والطبيب النفسي المشهور في مصر.
- ومن الخدمات الشديدة الأهمية التي هي خارج اللغة، تجريم (بالجيم) الإعلان في الإعلام كله بحروف معربة مثل: جرين لاند- دريم فالج- لونا بارك إلخ.
- دعوة رجال الأعمال والخيرين من الناس إلى تبني هذا الاتجاه وتشجيعه حفاظاً على أبنائهم وبني وطنهم، لأن كثيراً من هذه المقترحات تحتاج إلى نفقات كالجوائز والتشجيعات واللافتات وغيرها وغيرها، وفي الوطن كثير من الخير، والخيرين.
- إصدار أمر تنفيذي تجري متابعته بصرامة، لإزالة التلوث اللغوي البصري من الشارع العربي، حتى لو بدأنا بشارع واحد في كل عاصمة، بحيث تزال جميع اللافتات غير العربية، حتى لو كانت لشركة غير عربية، ويسمح لها أن تصوغ الكلام في لغتها بخط صغير، كما يفعل العربي حين يعلن في أوروبا مثلاً، وفي هذا الأمر التنفيذي إحياء لقانون صدر في مصر 1942، ثم عاد 1958 حين جمع الأمة أمل الوحدة، وأظنك –عزيزي القارئ- توافقني كثيراً، على أن هذا كله رهن بإرادة سياسية تؤمن به وتصر عليه، وربما قصدت إلى هذا، حين سميت المقالات الأولى التي عالجت قضية اللغة العربي “مديرية الأمن اللغوي”، لأن شعوراً لا يفارقني، بأن انهيار اللغة لا قدر الله، لا يقل خطراً عن انهيار السدود وانهيار الاقتصاد، فإن شر انهيار هو ما تفقد فيه الأمة ذاكرتها، وذلك –إن شاء الله- لا يكون، غير أن هذه التحديات الكبرى التي نواجهها ومنها مشكلات العربية، ليست إلا موضوعات اختبار حقيقية وصعبة جاء بها خبر القرآن في صراحة الشمس، حين قال: “ولنبلونكم، حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلو أخباركم”، فنحن إذن أصحاب المصلحة في اجتياز الاختبار العسر، أما اللغة الفصحى في ذاتها، فهي سرمدية، ما دام القرآن سرمدياً، وهي عظيمة بنا أو بغيرنا ممن يستحق شرف المهمة، إذ جعلها الله في عظمة كلامه، وجعل كلامه في عظمته هو، وكأن القرآن هنا، مؤشر دائم، أن هلموا أيها الناس، إلى هذا القدس العالي الذي يعلم اختلاف ألسنتكم وألوانكم، ومع ذلك، فقد جاءتكم الدعوة إليه بلسان عربي مبين.
ونحن نتمنى لكل من بلغته بطاقة الدعوة إلى حماية العربية، أن يوقن بأن الخوف ليس على الفصحى في ذاتها، فهي باقية بقاء القرآن، لكن الخوف علينا نحن الذين لا بقاء لنا إذا فقدنا هويتنا العربية لا قدر الله.