قيراط من الماس

قيراط من الماس

محمود حمدون

اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم

لم يكن لقاءً عاديًا، بل يقترب من مقابلة رسمية، بالفعل هذا ما استقر بنفسي فيما بعد. مدة من زمن لم تتجاوز ساعة ونصف، قبيل انصرافي وبيدي حقيبة متخمة بمقترحات وأفكار ورؤى من تلك التي لا تُغني ولا تُسمن صاحبها، ما لم تتوافر أوراق اللعب غير النظيفة التي تُتداول تحت الطاولة قوية ومؤثرة، وذلك ما لم يحدث معي.

 على أنّي أدركت قواعد اللعبة من فترة طويلة، وما دفعني لتقدم الصفوف، إلاّ رغبة في العكننة، أي تعكير صفوهم ولو لبضع دقائق، وقد انطلقت في طريقي هذا معلوم النهاية.

سمعت من يقول: ألم يك من الأفضل أن تدافع عنّا ولو بشق تمرة، بدلًا من تأييد اتهامات قيلت بحقّنا بهتانًا…أصغيت لكلمات القائل والتي تباينت صياغتها بين استفهام أقرب لسؤال، وإقرار بواقع حدث بالفعل وراج بين جنبات المدينة الصغيرة، عن رشوة من عيار ثقيل وقيل أنها قراريط من ألماس.. 

التفتُّ للصوت: إذ كنت أتوقع أن تبدأ الجلسة بافتتاحية كهذه، بدلًا من أن تكون خاتمة ونهاية، نظرت للمتحدث، وجدته يقترب من الأرض، تجدب رأسه من الشعر، عدا فوديه، ولمعة سوداء تخبر عن نوع قميء من الصبغة، ووجه متغضن لست أدرى حتى الساعة إن كان بغضب حطّ عليه من عقود أم أن صفحة وجهة مرآة تعكس ما سكن بأعماقه. لعلّها ثانية أو تزيد، قد أحطتُّ بالمشهد وبالقائل، فأيقنت أن ساعة الوغى قد دنت.

فقلت: ما سمعت إلاّ ما وصل لغيري، ثم أنّي كبقية القوم، تتبّعت بشغف الحكاية من أوّلها، فرأيتها ككرة ثلج، كلما تدحرجت زاد حجمها واندفعت بطريقها تهدم وتحطّم، فآمنت أن ما أوردكَ هذه التهلكة إلاّ عمل يدك، فأنا وغيري لم نكن من شهود الواقعة لم يؤخذ رأينا في الرشوة، وما كنت للغيب بعالم، فقط معلومة تدحرجت إلينا، ما أكثر المعلومات التي يتناقلها الناس على المقاهي.

كنت أتحدث إليه بتلقائية غريبة على طبيعتي، ينطلق لساني دون حذر، متجاوزًا أطُر الحديث ونواهي التعبيرات التي نشأت عيها، تلك لحظة غاب فيها الوعي أو ربما ارتدَّ إليّ في صورته النقية، فتلاشى خوفي من الفخاخ، تجاهلت الألغام الموضوعة عمدًا بكل زاوية وتحت كل خطوة.

أقسم أنّي تطلّعت لوجوه القوم، فرأيت عجبًا، لحظت إنكارًا وامتعاضًا يستقر بوجوههم، أيديهم تلوّح رفضًا لكلامي، بينما يقيني أن بعضا منهم ترقص قلوبهم طربًا لحديثي، بدا ليّ أن تلويحهم يعني أن أفض علينا بالمزيد!

بالصغر تصوّرت بعقل بدائي أن اللصوص، بشر على غير ما نعرف، سماتهم تختلف، عيونهم جاحظة، يمكن أن تعرف اللص من بعيد، ثم تتعوّذ منه وتتفل على يسارك. ثم أدركت أنهم وُدعاء، يقيمون الليل ويصلون الأرحام والناس نيام. 

ولمّا أبديت ذات يوم دهشة من ذلك، أسرّت ليّ غانية، تعلم ما يدور، تقف بمهارة راقصة باليه، في المنطقة التي تفصل بين الورع والمجون: تذكّر أن السيئة تذوب وتتلاشى إن فعل صاحبها حسنة، وأثنت وهي تنظر باعجاب لعصفور يطارح شريكته الغرام بقمة عمود إنارة: أفضل التسبيح ما يكون على أصابع يديك، فمن السخف أن تلجأ لبدعة السبحة.

تذكّرت هذه المرأة الصادقة مع نفسها، المتصالحة مع خطيئتها والمؤمنة أن الحياة لا يمكن أن تخلو من متناقضات، بعد أن رأيت الرجل وقد زادته الأيام أقزمة، يأكل بلذة غريبة على عربة فول، تزدحم بدورها بالمريدين من كل صوب، كانت نظرته خاشعة، وقد تضخمت على جبينه زبيبة بنيّة اللون، من أثر السجود.

أجزم أنه رآني، فنأى بجانبه وأعرض، استمر في لهوه مع طبق الفول، يفصل بينا نهر الطريق، عبارة بخط ديواني جميل، تستقر على بدن العربة كلوا من طيبات ما رزقناكم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.