مارش الوداع

مارش الوداع

فردوس عبد الرحمن

اللوحة: الفنان الإسباني خوان ميرو

أحفر وأحفر في الهاوية.

من هناك؟.. دم مراق وأحشاء ممزقة، أقارب وأسلاف، هياكل عظمية مطحونة ومع ذلك يتكلمون ويقفزون من فمي كل يوم ويشتغلون تحت عظامي.

هم الذين يحددون مقاس ذراعي ولون جلدي ومحيط فخذيّ.

أنا رجل وامرأة، أنفي مستدق مثل أبي وفمي عريض لأمي يصرخان في التراب: مازالت البذرة حية، اسكبي ماءً، سوف نكون شجرًا من جديد، اسكبي ماءً.

أبي يضحك ملء شدقيه لأني أسكب ماءً وأشعل نارًا وتخرج كتاباتي للنشر

أمي تبتهج حين أترك الكتابة وأذهب لأنظف المطبخ وأضع صينية البسبوسة في الفرن، جدتي تأنس لي الآن بعد أن حددت موعدًا للقهوة، عمتي تراقبني وأنا أنظف السمك وأطبخ الرُزّ

لست مسئولة عن ابنتي ولا عن أحفادي. أنا مسئولة فقط عن الذين تلفت أعينهم في التراب

كانت عدميتي لهاث موتى غضبوا لأني لم أسقهم ماءً

أبحر و أبحر في الظلمة لأن هناك أجدادًا أكثر، آباءً أقدم، عليّ وحدي أن أقيمهم، ليس لديّ عذر بعد الآن لأن الظلمة ليست في الداخل، الخارج أظلم إن لم تحمل مصباحك الداخلي.

سوف أرتعب أرتعب أرتعب إلى أن أمسك بقواي العمياء وأدق لها عينين وأضعها معي تحت اللحاف ثمَّ نذهب إلى النوم، سوف نصبح صديقتين ولن أستغيث بعد ذلك إلاَّ بها، حتى أندلق في التراب فتوقظني حفيدتي.

اللاعقل، اللاعقل، الجنون تقريبًا هو الذي يرشدني إلى اليقين، ليكون هذا العالم بعض أنفاسي.

كيف أنجو من العدم؟.. بالانزلاق إلى الطبقات التحتية منه، وكيف أصعد إلى الحياة؟ على طبقات الغيب الكثيفة التي أراها في الأسفل، في الظلمة، في الهاوية 

أَطلِق صراخًا لا يهم، امض مليئًا بالرعب والدموع كي تصل إلى قشعريرة الفرح بمولودك الجديد الذي هو أنت، حيًا وطازجًا

نبأ عظيم.. الحياة تخرج من الموت فمت حتى نراك تنقذ الأرض بنفس جديد وطازج

انزع الغطاء الحجري عن رأسك ومرِّن عقلك على الجنون

لا تكن مهذبًا وبعيدًا.. التصق التصق بالأرض، تنفس رائحتها القديمة ولا تقل: أنا حر، لن أدخل إليها أنا حر.  لاتكن حرًا فتموت

أيها السيد من أنت؟ إنك تصدر صوتًا وحشيًا فيرتجف العالم ثم تهبط في الظلام كي لا يراك أحد، أنا رأيتك في الظلمة هناك فمسحت على خديك وكنت تبكي، كانت جبهتك مسنودة على ذراعك وتبكي. من أنت أيها السيد قلت لك، فرفعت وجهك ونظرت إليّ وتنهدت ملئ صدرك وقلتَ اصعدي، لقد عرفتِ الآن اصعدي   

سوف أصعد يا إلهي وأنت هناك أيضًا، هناك في النور وتحت الشمس وفوق العشب وخلف الأشجار

من لا يعرفك هنا لا يراك هناك، من لا يدرك آلامك لا يعرف الفرح، سوف أصعد وأنبئ العالمين أنك هنا، من لا يراك هنا لن يراك على الأرض، تحت الشمس وفوق العشب وخلف الشجر

أجاهد حتى أحول التجربة إلى لغة، الكلمات ثقيلة كيف أحملها وحدي، الكلمات  بدينة، عالقة بالصخر ومليئة بالشوائب،  وعمل صعب أن أخلصها فاغفروا لي

إنني أحتاج الآن لغفران كبير، فالذي يتكلم يخطئ أحيانًا والذي يكافح يسقط كثيًرا والذي يهبط إلى الأسفل يعود بأظافر وقرون.. اغفروا لي

لقد تعرَّيت ورقصت على السلالم الحجرية، اغفروا لي

أنا نشوانة الآن 

أنا لا منطقية ولا عقلانية.. اغفروا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.