اللوحة: الفنان الإيطالي دوبليو برنابي
أو هو بعبارة أخرى، مستحدث قادم من “وادي السيلكون” والمواد المصنعة، ولكنه غريب حقاً.. مدهش فعلاً.. يكلم الناس.. يقهر ذكاءهم.. يفهم المعاني البعيدة، والدلالات المستترة حينما يلوي المتحدثون بالكلام ألسنتهم لتحسبهم صادقين، وتصبح الرسالة الحقيقية، هي هذا الذي لم يقولوه، لأنهم هم يسخرون أو يعرضون، على طريقة “إياك أعني واسمعي يا جارة!!”
فلسفة الفرنسي “ديكارت” رائد الفلاسفة المثاليين تقرر منذ زمان، أن هذا كله كلام فارغ، إذ إن كل الحيوانات ليس لها قدرة على التفكير، فالتفكير خصيصة إنسانية يوصف بها المرء عندما يكون قادراً على التحليل المنطقي والرياضي عبر اللغة، وعلى اكتساب المعرفة وتوظيفها وتوليدها من أجل المزيد منها.
وإذا كان هذا –عند ديكارت- هو حال الحيوانات التي يخلقها الله سبحانه، وله طلاقة القدرة، فما بالك بهذا الشيء المصنع من جماد “سليكوني” أصم، كيف يكلم الناس ويقهر ذكاءهم الذي هو منحة ربانية عالية؟
“ألان تورنج” عالم الرياضيات الإنجليزي الشهير، تنبأ قبل ظهور أول كمبيوتر بنحو خمسة عشر عاماً، بأن نظرية “ديكارت” هذه كلام فارغ!! وأنه سوف يصبح بإمكان الإنسان عما قليل، تطوير “آلات ذكية” قادرة!!
وعندما تفجرت ثورة المعلومات في العقود الأخيرة، رمى خبراء “الذكاء الصناعي” “ديكارت” وفلسفته وراء ظهورهم، وانهمكوا في “الوِرَش” workshops، وخرجوا تلمع عيونهم، يكادون يرمون “ألان تورنخ” نفسه وراء ظهورهم، ولكنهم تذكروا أن له عليهم فضلاً، فهو صاحب “النبوءة الأولى”، ولكنهم أيضاً، راحوا يؤكدون أننا سوف نقدم للدنيا “آلة ذكية” يكون بينها وبين ما تنبأ به “تورنخ” مثل هذا الذي هو بين أحدث “صرعة” في الهاتف النقال، وبين الهاتف الأول الجد، الذي اخترعه “جراهام بيل”، بل إننا سوف نجيء- يقول خبراء الذكاء الصناعي- بآلة تتفوق على الذكاء الإنساني نفسه، لأن الدماغ البشري يعمل تحت شروط فسيولوجية خاصة، وهذه الشروط يمكن أن تضطرب لأسباب صحية، فتضطرب لها الأفكار، أما آلتنا الموعودة –يقولون- فسوف تتحرر من هذه الشروط، وبذلك يمكن أن تقهر الذكاء البشري!!
وإذا كان كلام هؤلاء الخبراء ينطوي على غرور مسرف، يفترض خطأ أن آلتهم الذكية لن تضطرب “لأسباب فنية”، فإنه ينطوي أيضاً، على طموح إنساني مشروع لا يعرف الحدود، لأن الله جل علمه قد فسح الطريق واسعاً أمام خلقه، لعلهم يهتدون إلى بعض تجليات قدرته، “يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض قانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان” (سورة الرحمن).
لكن.. إلى أي مدى تحقق هذا الطموح على أرض الواقع؟
ما تزال الآلة الذكية التي توصل إليها العلماء وخبراء “الذكاء الصناعي” حتى اليوم، نباتاً متسلقاً كاللبلاب على أكتاف “الذكاء البشري”، فهناك “مهندس معرفي إنسان يغذي هذه الآلة ويبرمجها، فهي عاجزة بعد، عن امتلاك موهبة التعلم الذاتي دون وسيط.
لكن هل هذا التعلم الذاتي ممكن فعلاً؟.. الخبراء يقولون: إي والله.. وذلك بإكساب الآلة، وسائل تحاكم بها وظائف الإدراك في المستوى الحسي والسمعي والبصري عند الإنسان، ووسائل النقد القادر آلياً على تحليل مضمون النصوص، وسبيل ذلك هو محاكاة نظم التعلم عند الإنسان لتحصيل المعرفة بالتجربة والخطأ، والاكتشاف، والأمثلة والتدرج، والقدرة على المراوغة والكذب إذا لزم الأمر، بل هم يطمحون إلى أن تعيد الآلة توفيق نفسها تلقائيا عند حدوث عطل أو عطب جزئي، لتتغير مسارات العمليات إلى طرق أخرى، كما يحدث في المخ البشري!!
تلك –عزيزي القارئ- مسافة ذاهبة في الطموح الإنساني لا يملك المتابع إلا أن ينحني إزاءها لخالق العقل البشري، الذي تبلغ به “شقاوته” ذلك المدى من الإعجاز، وهو يتسلق واثقاً إلى أقطار السموات والأرض.
لكن.. هل نظل نحن العرب نحتفظ –ولدينا الإمكانات- بهذا المدى من العجز، وعقولنا العربية والإسلامية مهاجرة إلى هناك، تصنع أو تسهم على الأقل، في هذا الذي ننحني له، ثم نمصمص في حسرة شفاهنا؟
وهل نظل غير مدركين لهذه العلاقة التبادلية العضوية بين التربية ونظم المعلومات، وأنه لن يحدث تقدم أي تقدم ما لم نطور نظامنا التعليمي؟
وهل اقتناء ما يتوافر من نظم الخبرة معضلة يتعذر حلها؟ هل تدريب المهندس العربي على تحديث قواعد المعلومات والدخول بجدية قادرة على التغيير المنظم يحتاج إلى معجزة؟ هل أصيبت الأمة رغم غزارتها بحالة من العجز والعقم، فنامت لتدهسها العجلات المجنونة على الطريق السريعة للمعلومات؟ أم أننا –عزيزي القارئ- سوف ننتظر حتى تظهر “الآلات الذكية” لتفكر لنا، بعد أن فقدنا عقولنا؟ لا ندري!